وزير التموين: الشراكة مع القطاع الخاص تكليف رئاسي    وكيل تعليم الفيوم تستقبل رئيس الإدارة المركزية للمعلمين بالوزارة    محافظ القليوبية يشارك في تكريم أوائل الثانوية والماجستير والدكتوراه    جامعة جنوب الوادى الأهلية تقرر غلق باب القبول للعام الجامعي 2024 / 2025    استشهاد شريف أبو الأمين قائد حماس بلبنان و3 قياديين بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أول استهداف صهيوني لقلب بيروت    مقتل 5 مواطنين وإصابة 57 آخرين في غارات إسرائيلية على الحديدة باليمن    هازارد: صلاح أفضل مني.. وشعرنا بالدهشة في تشيلسي عندما لعبنا ضده    سيدتان تنفذان وصية دجال بدفنه فى منزله وتشييد مقام له    التصريح بدفن جثة فتاة تناولت سم فئران بمنطقة المرج    حبس خفير لاتهامه بالتحرش بطالبة فى الشروق    بعد وقف تصاريح فيلم «التاروت».. علي غزلان يرد : «طالع بشخصيتي الحقيقية وعملت المشهد مجاملة»    وزير الصحة: الحكومة تلتزم بتهيئة بيئة مناسبة لضمان قدرة المستثمرين الأجانب على النجاح في السوق المصري    قافلة طبية شاملة من جامعة قناة السويس إلى الجزيرة الخضراء بالتل الكبير    500 وفاة لكل 100 ألف سنويا .. أمراض القلب القاتل الأول بين المصريين    5 نصائح بسيطة للوقاية من الشخير    الرئيس السيسي: وحدة وتماسك الشعب هما الضامن الأساسي للحفاظ على أمن واستقرار الوطن    والد محمد الدرة: الاحتلال عاجز عن مواجهة المقاومة.. ويرتكب محرقة هولوكوست بحق الفلسطينيين    خُط المنطقة المزيف    المتحف المصرى الكبير أيقونة السياحة المصرية للعالم    هل الإسراف يضيع النعم؟.. عضو بالأزهر العالمي للفتوى تجيب (فيديو)    20 مليار جنيه دعمًا لمصانع البناء.. وتوفير المازوت الإثنين.. الوزير: لجنة لدراسة توطين صناعة خلايا الطاقة الشمسية    أخبار الأهلي : تفاصيل جلسة لم الشمل للاعبي الأهلي بعد خسارة السوبر    الزمالك 2007 يكتسح غزل المحلة بخماسية نظيفة في بطولة الجمهورية للشباب    «الشعب الجمهوري»: نتبنى توجيهات القيادة السياسية بدعم ذوي الهمم    محافظ مطروح يتابع جهود المبادرة الرئاسية "بداية جديدة" فى مدينة النجيلة    النيابة تواجه مؤمن زكريا وزوجته ب التربي في واقعة السحر    يختصر الاشتراطات.. مساعد "التنمية المحلية" يكشف مميزات قانون بناء 2008    اللجنة الدولية للصليب الأحمر بلبنان: نعيش أوضاعا صعبة.. والعائلات النازحة تعاني    القاهرة الإخبارية: رشقة صاروخية من الجنوب اللبناني صوب أهداف إسرائيلية    تواصل فعاليات «بداية جديدة» بقصور ثقافة العريش في شمال سيناء    «قومي المرأة» تنظم ندوة «نحو الاستخدام الآمن للتواصل الاجتماعي»    «حماة الوطن»: إعادة الإقرارات الضريبية تعزز الثقة بين الضرائب والممولين    طرح 1760 وحدة سكنية للمصريين العاملين بالخارج في 7 مدن    «الإجراءات الجنائية» يفتتح انعقاد «النواب».. الإثنين بدء انتخابات اللجان    نائب محافظ الدقهلية يبحث إنشاء قاعدة بيانات موحدة للجمعيات الأهلية    الخدش خارج السطح.. إليك كل ما تحتاج معرفته حول التهاب الجلد التحسسي    عشريني يُنهي حياته شنقا في قنا    1 أكتوبر.. فتح باب التقديم للدورة الخامسة من "جائزة الدولة للمبدع الصغير"    كريم رمزي: عمر مرموش قادر على أن يكون الأغلى في تاريخ مصر    هيئة الاستشعار من البُعد تبحث سُبل التعاون المُشترك مع هيئة فولبرايت    جامعة بنها: منح دراسية لخريجي مدارس المتفوقين بالبرامج الجديدة لكلية الهندسة بشبرا    برغم القانون 12.. ياسر يوافق على بيع ليلى لصالح أكرم مقابل المال    أفلام السينما تحقق 833 ألف جنيه أخر ليلة عرض فى السينمات    إيران تعلن رغبتها في تعزيز العلاقات مع روسيا بشكل جدي    وزير الشباب يستعرض ل مدبولي نتائج البعثة المصرية في أولمبياد باريس 2024    جمارك مطار الغردقة الدولي تضبط محاولة تهريب عدد من الهواتف المحمولة وأجهزة التابلت    مصرع شخص دهسته سيارة أثناء عبوره الطريق بمدينة نصر    محافظ القاهرة يشهد احتفالية مرور 10 أعوام على إنشاء أندية السكان    ناصر منسي: إمام عاشور صديقي.. وأتمنى اللعب مع أفشة    ضبط 1100 كرتونة تمور منتهية الصلاحية بأسواق البحيرة    «بيت الزكاة والصدقات» يبدأ صرف إعانة شهر أكتوبر للمستحقين غدًا    إنفوجراف.. آراء أئمة المذاهب فى جزاء الساحر ما بين الكفر والقتل    مدير متحف كهف روميل: المتحف يضم مقتنيات تعود للحرب العالمية الثانية    نائب الأمين العام لحزب الله يعزي المرشد الإيراني برحيل "نصر الله"    أمينة الفتوى: هذا الفعل بين النساء من أكبر الكبائر    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 30-9-2024 في محافظة قنا    التحقيق مع المتهمين باختلاق واقعة العثور على أعمال سحر خاصة ب"مؤمن زكريا"    الأهلي يُعلن إصابة محمد هاني بجزع في الرباط الصليبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التنظيم السرّي لتوليد الركود
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 29 - 06 - 2014

حسنا فعل الرئيس السيسي بأنه ردّ الموازنة العامة إلي هذه الحكومة، لإعادة النظر في تخفيض ثقل هذا العجز الهائل بين مواردها ونفقاتها والذي يتجاوز 340 مليارًا، ويؤدي إلي رفع سقف الدين الداخلي إلي أكثر من 2 تريليون جنيه.
ولا أقول إن ذلك حسنا من باب المبادئ كوصفه بأنه موقف سياسي مسئول، ولا من باب المشاعر كوصفه بأنه تأكيد لانحيازه إلي القواعد الشعبية العريضة.
وإنما أقول ذلك -أولًا- من باب المنهج، لأنه ربما للمرة الأولي منذ عقود، يتم تصحيح العلاقات والأوضاع، بين السياسة، والاقتصاد، والسياسة النقدية، فتؤكد السياسة أولويتها وأنها قوة الدفع الرئيسية التي تقود عربة الاقتصاد، ثم عربة السياسة النقدية من ورائها وليس العكس، كما ظل سائدًا عبر عقود ممتدة، ساهمت خلالها ثمرة العلاقة المعكوسة بينهم في إنتاج كافة أشكال الخلل في التوازنات الاقتصادية والاجتماعية.
وأقول ذلك -ثانيًا- من باب الرؤية المستقبلية، فالملاحظ أن الرئيس فسّر موقفه داخل هذا الحيّز، بأنه لا يستطيع أن يوافق علي هذا العجز لصالح الأجيال القادمة، وهو عنصر جديد أيضًا، وكان منبت الصلة بكافة السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومات السابقة، بما فيها حكومات ما بعد الثورة، والتي كان جلّ اهتمامها جميعها منصّب علي الاستقرار المؤقت للاقتصاد الكلّي علي حساب النمو المستقبلي.
ومع أن الحكومة تنادت إلي إعادة إخضاع الموازنة لما يتوافق مع مطالب الرئيس، إلا أن ذلك لا يضفي علي الموازنة القدر المطلوب من التوازن، ذلك أن الخلل الجوهري في تقديري ليس كامنًا فقط، في السماح لفجوة العجز والمديونية بالتمدد، فهو مجرد عرض لمنهج قاصر ومعتل لا ينتج إلا سياسات اقتصادية واجتماعية منحازة إلي أعلي السلم الاجتماعي أسيرة منطق النمو، رهينة بقرة السوق المقدسة، تري الفقر مجرد منتوج جانبي يمكن معالجته ببعض المعونات والإعانات، عاجزة عن تحقيق تنمية مستقلة متوازنة ترتكز علي مبدأ الاعتماد علي الذات وعلي تعبئة الموارد الوطنية.
وهذا المنهج القاصر هو الذي أثمر بالتراكم عبر عقد ونصف من الزمن هذا عبيد 'عملها ارتكازًا علي هذا المنهج، ويمكنك أن تراجع بيانها الأول '18 ديسمبر 1999' وبرامجها الثلاثين، ووعودها التي قطعتها علي نفسها' 'عدالة التوزيع' 'زيادة الدخول' 'منع الاحتكار' 'تقوية دور الدولة' 'حل مشكلة البطالة'.. الخ.. فرغم أن العجز في أول موازنة عامة لها لم يتجاوز 5 مليارات جنيه، فقد نما في موازنات الأعوام التالية إلي 7.5 مليار ثم إلي 30.9 مليار ثم إلي 43.1 مليار، ليصل العجز في موازنة 2004- 2005 إلي 52.3 مليار، فقد ظل العجز ينمو بشكل مطرد، ليعكس علي نحو مطرد أيضا مضاعفات اتساع الخلل في التوازن الكلي للاقتصاد الوطني، ليصل العجز بين الموازنة الأولي والرابعة إلي نسبة 1046% وليزيد الدين الداخلي بنسبة 100%، وعندما يصل العجز الآن إلي 390 مليارًا والدين الداخلي إلي 2.6 تريليون، فلك أن تحسب نسبة النمو السرطاني في العجز والمديونية، وحجم الخلل في التوازن الكلي للاقتصاد، الذي أدي إليه اعتماد هذا المنهج الذي ظل يمثل الموروث الطبيعي الذي تغذت عليه كافة الحكومات التي سبقت ثورة 25 يناير والتي تلتها دون استثناء، فخلال أقل من أربعة عشر عاما مثل العجز في الموازنة العامة للدولة المصرية من 5 مليارات جنيه إلي 340 مليارًا، أي نسبة قدرها 6800%، وخلال أقل من أربعة عشر عاما نما العجز في إجمالي الدين الداخلي من 187.7 مليار جنيه إلي 2000 مليار جنيه، أي نسبة قدرها 1046%.
وليس هناك أكثر من ذلك دلالة علي اعتلال المنهج وتهافته وقصوره، وافتئاته علي حقوق الوطن، وعلي حقوق القاعدة المنتجة العريضة من المصريين.
إن هذا يعني -أولًا- أن البطالة أو التضخم أو تدني قيمة العملة الوطنية، أو تضخم العجز والديون، أو ضمور الاستثمارات، وغيرها وغيرها، ليست أمراضًا منفصلة وإنما أعراض مرضية لعلة أساسية واحدة، قد فرضت نفسها علي الاقتصاد الوطني، هي هذا المنهج ذاته.
وهو يعني -ثانيًا- أن هذه العلة الأساسية لم تنبت شيطانيًا في مجري هذا الاقتصاد، فليست ضربًا من أعمال الطبيعة كالزلازل والبراكين، أو مجرد أعراض جانبية للدواء لا بديل عن تناوله، وإنما هي نتيجة قصور في التناول والتشخيص والعلاج.
وهو يعني -ثالثًا- أن العلة ليست كامنة في قلب الاقتصاد الوطني، وإنما في منهج التعامل مع مفرداته البشرية والمادية والفكرية، وهي ليست في هيكل الثروة الوطنية، وإنما في منهج استثمارها وتنميتها وتوزيع عوائدها، بل استطيع أن أجزم أن الأفكار المسيطرة في هذا الحقل أكثر فقرًا من الواقع المصري، وأن هذا الواقع أكثر غني من سياسات كافة حكوماته.
وهو يعني -رابعًا- أن هذه العلة ليست مستعصية، ولكنها قابلة للعلاج، وأن علاجها لا يتطلب معجزة، وإنما يتطلب بالدرجة الاولي، طرد وهمين أساسيين، لا يزال التنظيم السري لتوليد الركود وإدامته وحراسته في صفوف النخبة السائدة، يسعي إلي تحويلها إلي قناعة سرمدية راسخة، وهما أنه لا بديل للأفكار وأنه لا بديل للأشخاص، مع أن في مصر غني في الأشخاص أكثر مما تدركه العين، وغني في الأفكار، أكثر مما يدركه العقل.
قد يبدو الحديث عن تنظيم سري لتوليد الركود وإدامته وحراسته في صفوف النخبة السائدة ضربا من المبالغة، ولكنك لا تستطيع أن تجد تفسيرًا عقلانيًا مقنعًا لكثير من الظواهر غير الطبيعية بغير ذلك.
قل لي- مثلا - كيف تفسر استدعاء وزير المالية الحالي بالتليفون من واشنطن لتضع الحقيبة المالية بين يديه، وهو رجل لا طعن عندي في شخصه الكريم، ولكن في انتمائه الفكري وفي انحيازاته الاجتماعية الاقتصادية، وحتي إذا تجاوزت عن أنه ينتمي قلبًا وقالبًا إلي مدرسة الوزير الأسبق يوسف بطرس غالي، فإنه في المحصلة النهائية، هو الذي تولي بيديه وضع تصميم وبناء كافة موازنات الحكومة المصرية، علي امتداد السنوات بين عامي 2006 و 2011، وهي موازنات لا يمكن الفصل بينها وبين حرائق الغضب التي اشتعلت، وامتلأت بمئات المظاهرات الفئوية قبل أن تتسع نارها، بعد أن أمدها تراكم البطالة والفقر وسوء توزيع الثروة، وقلة القدرة علي إشباع الحاجات الأساسية بوقود سائل، مكنها من هدم بنيان السلطة وإسقاطها خلال أيام من مشاهد ثورة 25 يناير.
إن العمل الاقتصادي خاصة في هذا الحيز ليس حرفة فقط، ولكنه خيال وإبداع، فوق أنه تعبير عن انحياز لا مجال للشك في دوره وتأثيره وعندما يكون المسئول الأول قبل الثورة عن إنجاز العمل، وقد كانت الثورة في مقدمة نتائجه، هو الذي يستدعي لانجاز عمل مماثل، يستوعب أهداف الثورة وأحلامها، فإننا بصدد اختيار مفعم بالقلق، كما هو مفعم بالتساؤلات.
قل لي -مثلا- كيف تري رد فعل الحكومة علي خطاب الرئيس منعكسا علي ما تم نقله أو تسريبه من جانبها إلي وسائل الإعلام، لقد أكد الرئيس أن مصر تحتاج إلي تضحيات حقيقية من الجميع، وخاطب كل مصري ومصرية بالقول، ساعدوا مصر فظروفنا صعبة، وهذا وقت التكاتف والوحدة ومصلحة الوطن، لكن ما صدر عن بعض أعضاء الحكومة في اليوم نفسه وفي أعقاب خطاب الرئيس، يضرب عرض الحائط بمنطق الظروف الصعبة، التي تستوجب طلب المساعدة من المصريين جميعًا، ومن جانبين.
علي الجانب الأول فقد أعلن وزير التجارة والصناعة، عن مؤشرات وصفها بالإيجابية لتعافي الاقتصاد المصري، فقد ارتفع معدل الناتج المحلي الإجمالي حسب قوله خلال الربع الثالث من العام الحالي إلي 2.5%، مقارنة بمعدل 1.3% في الربع الثاني، وارتفع معدل النمو في الناتج الصناعي إلي 6.9%، كما سجلت الاستثمارات الصناعية طفرة حيث سجلت فترة التسعة أشهر من العام المالي الأخير نحو 30 مليار جنيه.
فإذا كانت الصورة وردية علي هذا النحو، خاصة علي مستوي النمو في معدل الناتج المحلي الإجمالي، وفي النمو الصناعي وفي طفرة الاستثمارات الصناعية، فما الحاجة إلي وصف الظروف بأنها صعبة، وبأن المساعدة مطلوبة وملحة، وتفرض خططا للتقشف علي الجانب الثاني، فقد سربت مصادر الحكومة إلي وسائل الإعلام ما يضيف إلي الصورة الوردية، حقلا كاملا من الورود، تطوف فوقه سحب من الاستثمارات العربية والأجنبية، فحسب ما تم تسريبه، تقريبا من المصدر نفسه، فقد حظيت مصر خلال أسبوعين فقط، بما يساوي 13.2 مليار جنيه استثمارات عربية وأجنبية، منها 4 مليارات في مجال الصناعات الغذائية، ومنها 7 مليارات في مجال المقاولات والإعلام، ومنها 525 مليون من الصناعات الاستهلاكية، ومنها 1.19 مليار في مجالات الأثاث، ومنها 65 مليون جنيه في إنتاج الشيكولاته.
وهذا بدوره ما يؤكد أن الحديث عن مضاعفات أزمة ومحنة، تتطلب تكاتفًا شعبيًا، وتغييرا في ميزانية الدولة وتضحيات جماعية، وتقشفًا ممنهجًا، لا حاجة إليه، ما دامت الاستثمارات العربية والأجنبية قد أمطرت خلال اسبوعين علي هذا النحو، والخشية أن يستمر إمطارها بهذا المعدل، حيث لن نجد لها مكانا أو موقعا تستثمر فيه.
والحقيقة أن مثل هذا الكلام، وهو لغو خالص من أوله إلي آخره، هو لا يعني إلا شيئا واحدا هو التطرف في الدفاع عن المنهج الحكومي السابق، بخياراته وانحيازاته الاقتصادية والاجتماعية، فإذا كانت المؤشرات تؤكد أن الاقتصاد بتعافي، وإذا كانت صنابير الاستثمارات العربية والأجنبية، مفتحة علي اتساعها، فما الحاجة إلي إحداث أي تغيير في هيكل الموازنة، وبالأساس في منهج النمو نفسه، وما الداعي إلي طلب التبرع بأنصاف الرواتب أو أنصاف الثروات، كما قدم الرئيس بنفسه القدوة الحسنة، وما الداعي إلي الطلب من رجال المال الذين يكتنزون في جيوبهم ثلثي الثروة الوطنية، أن يستشعروا الغيرة علي المحنة التي يمر بها وطنهم، فيجزلون له العطاء، مما أخذوه منه بالحق والعدل أحيانًا وبغير الحق والعدل غالبا، ولست أفهم هذا الكلام الذي وصفته حقا بأنه لغو خالص، إلا في سياق أنه محاولة لبناء حائط صد، أمام موجة التغيير، التي أراد الرئيس أن يرفعها سواء برفضه التوقيع علي الموازنة العامة للدولة، أو بطلبه العون من المصريين لتجاوز أزمة، تكاد أعراضها أن تمسك بقلب مصر، أو بالقدوة الحسنة التي ضربها بنفسه.
لماذا - أولا - لأن رقم 13 مليار جنيه استثمارات مباشرة في أسبوعين هو رقم كاذب تماما، فالرقم الأول هو 4 مليارات جنيه، هو مجمل خطة لم توضع موضع التطبيق، أمدها لو صح تطبيقها خمس سنوات، والرقم الثاني وهو 7 مليارات جنيه كسابقه تماما، أما رقم 1.19 مليار جنيه، فالمدفوع منه هو 170 مليون جنيه فقط، والرقم الأخير وهو 65 مليون جنيه، فهو بدوره مجرد مشروع لم يدخل حيز التنفيذ، وحتي بفرض أن هذه الأموال كلها حقيقية، وقد أخذت طريقها إلي مشروعاتها الاستثمارية، فالواقع أنها لا تعكس غير طبيعة النمو الذي يتمسكون به علي حساب الشعب، وطبيعة الاستثمارات الأجنبية التي تفتح لها الأبواب بغير خطة وحساب، ولست أعرف أن مصر في حاجة إلي استثمارات لإنتاج الألبان والزبادي، تقوم بها شركة سعودية أمريكية، تتعجل الاستحواذ علي السوق الوطني، رفعت سعر كيلو اللبن إلي ما يقارب عشرة جنيهات، بحيث لا تطوله أفواه أبناء المصريين الفقراء، بل وأبناء الطبقة المتوسطة، وهو ما يماثل أربعة أضعاف ثمنه في الريف المصري، ولا هي في حاجة إلي مزيد من إنتاج الشيكولاته الفاخرة، لشعب يعاني أغلبيته المطلقة في إشباع حاجاتها الأساسية، ولا هي في حاجة لاستثمارات تركية في مجال إنتاج الأثاث، بعد أن أوصلت شركات الأثاث المصرية إلي الركود والبطالة، وهذا يعني فضلا عما سبق كله، أننا أمام حكومة ليس لديها خطة للاستثمار، في إطار استراتيجية وطنية شاملة، أما الأرقام السابقة عن النمو فهي لا تتسم بالدقة فضلا عن أن تقدير نسبة النمو الصناعي ب 6.7% هو تلاعب بالأرقام، بجمع نسب سنوات متتالية، إضافة إلي أن الحديث عن النمو مجددا هو نوع من الخداع، فما هي طبيعة هذا النمو، في أي وجه من وجوه الصناعة، وهل هو يسد حاجات داخلية، أو موجه للتصدير، وما نسبة القيمة المضافة إلي ما يمثله.. الخ..
قل لي - مثلا - كيف تفهم هذه المفارقة الواضحة بين تأكيد الرئيس وهو يعيد الموازنة إلي الحكومة لتعديل بعض بنودها، ويطالب الحكومة بألا يكون هذا التعديل علي حساب الفقراء، وبين ما سربه مصدر حكومي بارز - حسب وصف إحدي الصحف - من أن أعضاء كثيرين في الحكومة طلبوا من السيسي أن يتكلم مباشرة مع الشعب، لكي يهييء لهم الأجواء، لاتخاذ قرارات ترشيد الدعم خصوصا في مجال الطاقة، لأن الموقف السياسي من وجهة نظر الحكومة لا يحتمل إجراءات جديدة.
وهذه المفارقة وبين ما قاله الرئيس عن تجنب وضع جانب من الأزمة علي أكتاف الفقراء، وما سربته أوساط الحكومة عن عدم احتمال الموقف السياسي اتخاذ اجراءات جديدة، وعن طلب بعض أعضائها من الرئيس أن يتكلم بنفسه مع الشعب، يعني أن الحكومة تغسل يدها أمام الرأي العام مقدمًا من أي إجراءات تقشفية سوف تتخذها، وعما يمكن أن يترتب عليها من غضب شعبي، وتضع كلام الرئيس نفسه عن حماية الفقراء، من أيه إجراءات ستتخذ في موضع استفهام في منظور الرأي العام.
وإذا كانت الحكومة تري أن الموقف السياسي لا يحتمل مثل هذه الإجراءات، التي قد تمس مصالح القاعدة العريضة من المصريين، فلماذا لم تقدم بدائل لها، لماذا -علي سبيل المثال- تمسكت حتي الرمق الأخير بدعم الصادرات بمبلغ 3.1 مليار جنيه، رغم أن الشعب يدفع ثمن ذلك مضاعفا، تارة بهذا المبلغ الذي يذهب إلي حفنة من أصحاب النفوذ السياسي وبعض الرأسماليين في 'الكويز'، وتارة برفع الجمارك عن الصادرات الآتية من أغلب البلاد التي يتم التصدير إليها، وفق اتفاقيات مسبقة، حيث لا ينص حديثها إلا علي دعم السلع الغذائية الذي لا يمثل سوي 1% من الإنفاق العام، و6% من إجمالي الدعم في مصر.
بينما لم تقدم الموازنة سوي 200 مليون جنيه - فقط لا غير - تحت بند دعم الصعيد، وهو أمر لا يعني فقط التجاهل المطبق، لجنوب مصري يئن تحت أوضاع مضاعفة من البطالة والعوز وسوء الأحوال، ولكنه يعني أيضا أننا أمام موازنة بلا عقل، فضلا عن أنها بلا قلب.
المطلوب حقا من موازنة الدولة، ليس حصر بنود الموارد وتوزيعها علي بنود الإنفاق، وسد العجز بقدر الطاقة بينهما، وإنما بالأساس تحقيق تنمية، أي إشباع مزيد من الحاجات، وتوفير فرص عمل، وتحقيق عدالة أكبر في توزيع عائد العمل الاجتماعي، وذلك يتطلب فوق إشباع الحاجات الأساسية، خلق استثمارات جديدة لتوليد نقود إضافية، تخلق بدورها فرص عمل جديدة، لكننا أمام موازنة، تكاد تكون خالية من الاستثمارات الحقيقية، وبالتالي فهي مجردة من التنمية، بعيدة عن المفهوم الحقيقي للعدل الاجتماعي، وهي في النهاية ليست من صنع الثورة، وإنما من صنع التنظيم السري لتوليد الركود!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.