علي قدر ما في مصر من مراكز للتخطيط ومعهد قومي للتخطيط، ووزارة تحمل اسم التخطيط احتفظ بحقيبتها وزيران فقط طيلة عشرين عاماً، قبل أن يتبدل اسمها وينتهي الامر الي الوزارة ذات الآفاق الذكية، نعم علي قدر كل هذا فإنه نشأ في العقود الأربعة الاخيرة غول متوحش يحمل اسماً مضاداً تماماً للتخطيط هو العشوائيات التي بدأت سكنية وانتهت الي كل شيء، وأنه لمن المدهش حقاً أن القوة غير المنظمة هذه بمساعدة أطراف كثيرة، يشتركون في مصالح مادية واضحة استطاعت أن تحول العشوائيات إلي موقف قانوني لا تستطيع الدولة بحكومتها أن توقفه أو تزيل آثاره، ومن المؤكد أن اصحاب المصالح هؤلاء ينتشرون في كل أجهزة الدولة من شرقها إلي غربها، وأنهم يعرفون جيداً ثغرات القانون وكيف ينفذون منها، ولا يستطيع، أحد ان يذكر أن السكوت علي هذه الحالة كان يصل الي أوجه في فترات الاستفتاءات أو الانتخابات العامة، وكان الصمت الذي شوهت مصر بين يديه وتكون عالم يشبه القنابل الموقوته بسببه كان في حد ذاته جريمة لن يغفرها التاريخ بأي حال. لقد أحاط بالقاهرة الجميلة إحدي معجزات العمران في العالم سرادق من المباني العشوائية التي احدثت في قلبها ومن حولها ندباً وأوراماً فاحشة يكفيك ان تلف مع الطريق الدائري لتكتشف حجم هذه المصيبة التي جلبناها ورعاها المقصرون والفسدة الجهلة، ولم يتحرك لهم ساكن، او يستيقظ فيهم ضمير، وللمصيبة عدة اوجه لم يدركها وقتها الذين جلسوا للتخطيط علي ورق بدون أحبار، أولها أن هذه العشوائيات استفحلت علي أرض الواقع حتي خنقت مداخل القاهرة بشكل غير مسبوق في تاريخ العواصم العالمية كلها، وكلنا رأينا حينما أريد أن يشق طريق يصل القاهرة بمدينة أكتوبر كم كان ضيق وسوء هذا الطريق، وكلنا يراه مختنقاً محتقناً بالساعات الطوال ليس لها من آخر، وكذلك فإن هذه العشوائيات كرست القبح المعماري وانتفي معها أي نظام جديد يمكن أن يحل بسهولة محل هذا القبح واثره في النفوس وامتداده الي سلوك الناس من الجانبين، الذين في العشوائيات والذين هم خارجها، أو علي حافتها، لقد انتقلت من هذه العشوائيات اساطيل العربات وأغلبها غير صالحة للسير تحمل ناسها إلي قلب العاصمة وازداد حجم التلوث بشكل مرعب لاسباب عديدة اكثرها خطراً هذه العربات ومن يقودها بغير تراخيص ومن يحميهم حين يحاط بهم من مسئول مروري لديه شيء من ضمير ووطنية. لقد وقعت القاهرة اسيرة هذه اليد الاثمة التي امتنعت عن تنفيذ القانون برؤية مستقبلية تحمي الوطن من اثار هذه العشوائيات التي اوشكت ان تنفجر في وجهنا جميعاً بعد مسافة قليلة وبعدها لن ينجو أحد من عذاب يومئذ، ولن أتحدث عما حدث منذ أيام وهو شيء بسيط جداً لما اتوقعه إذا بقي الامر كما هو عليه، فما تزال الاراضي الزراعية حول القاهرة تنتهب لمصلحة تجار وسماسرة يعملون لحساب سماسرة أكبر يحاولون أن يجنوا أكبر قدر ممكن من المال في هذه الغفلة الحكومية التي لا أجد لها تفسيراً بالرغم من ظهور المضاعفات الجسيمة لتفحش العشوائيات، هل ننتظر حتي تنسد شوارع القاهرة ومنافذها جميعاً ولا يستطيع أحد أن يذهب الي عمله أو يمارس حياته، كما هي مؤلمة هذه الحالة التي شهدتها من فوق كوبري التونسي لأري شيئاً ضئيلا مما اتوقع ويتوقعه معي كل الشرفاء في هذا البلد الذي شوهناه جميعاً بغير استثناء، أما الذي لا أرجوه لوطني أن تمتد يد الغدر وتخرج لنا من أوكار التطرف ما كان بالامس خامداً حيث لم يعد امامها الا ذلك في مثل هذه الاوقات المريبة إن العشوائيات لم تعد خطراً معمارياً أو مكانياً أنما صار خطرها أشد، وأعتقد ان كثيرين من اصحاب الرؤي والبصيرة يدركون معي هذه الحقيقة، ففي الظلام تتربي الافكار الفاسدة وتترعرع بين غابات كثيفة من ضلالات وبعيدة عن مصادر النور الحقيقي، اننا أمام مشكلة معقدة، ليس فيها شك، وليس الحريق هو وحده، الذي فجر قضيتها الآن، إنما هو بعد آخر سيحرم مصر وعاصمتها البديعة من أمن واستقرار هي أولي بهما وأجدر، إني لأشعر بخطر داهم يكمن في تأجيل المواجهة مع التسيب وهذه العشوائيات التي نتجت عنه.