حان الوقت تماما، لاعادة النظر في منظومة "الدفاع المدني" علي مستوي جميع محافظات مصر، يتقدمها بطبيعة الحال مدينة القاهرة المحظوظة بأكبر نصيب من العشوائيات والتي بلغ تعدادها حسب آخر احصائية 1221 منطقة عشوائية يسكنها ما يزيد علي 12 مليون مواطن، يعيشون في ظروف مأساوية عادت بالبشر المكدس بداخلها الي ما قبل التاريخ! العشوائيات لم تولد في قلب عواصم المحافظات والقاهرة بالذات كالنباتات الشيطانية، فلها ظروفها، واسبابها التاريخية والدرامية التي قذفت بها في وجه المجتمع، في زمن غاب فيه الوعي والذوق العمراني، والتخطيط العمراني في حماية ضمير ميت يعبث بظروف ومقدرات هذا البلد، فالعشوائيات ليست بالامر الذي يمكن تجاهله أو تسويفه علي مدي نصف قرن من الزمان، لان القضية لا تنحصر في مجرد عشوائيات ديموجرافية ولكنها مأساة مركبة من العشوائيات الادمية والعشوائيات الاخلاقية، وعشوائيات التخطيط. لحوم البشر المكدسة داخل العشوائيات مازالت في نظر الحكومات المتعاقبة علي مدي نصف قرن تعتبر هذه الكائنات الآدمية نسيا منسيا اللهم بورقتي شهادة الميلاد وشهادة الوفاة، وما بين الميلاد والممات فقد سقط هؤلاء سهوا من منظومة التخطيط الحكومي في دولة بها وزارة اسمها وزارة التخطيط التي اتحدي بها الحكومة لو شرحت لنا ما هي المسئوليات المنوطة بها علي وجه التحديد، وزارة للتخطيط، حسنا، أما ان تخطط لمن ومن اجل من وماذا تفعل ، الله أعلم، هي وزارة البيئة احدي ديكورات الحكومة الالكترونية في زمن صعب يسكن فيه 12 مليون بني آدم في عزبة الصفيح وعزبة القرود، وعزبة عرب المحمدي وعزبة الورد وكأنها محافظات الجمهورية العشوائية العظمي أو دولة داخل دولة لها طقوسها ومراسيمها الخاصة التي لا تخفي عن الاعين الحكومية، والعشوائيات تلد عشوائيات بثقاقة- متوارثة، فقد تجاهلت حكومات العسكر ابان فترة الخمسينيات ظاهرة الهجرة الداخلية من الريف الي الحضر، أو علي الاقل لم تنظمها حتي لا تؤتي بثمارها المرة علي حواف وقلب المدن، فعلي سبيل المثال وليس الحصر، لم تفلح مع الفلاحين حكاية توزيع الخمسة فدادين المعروفة علي المعدمين بعد ان رفعت الثورة المباركة شعار "الأرض لمن يزرعها" وليست لمن يملكها أو القانون الطبيعي لتلك الاشياء، تظهر بيننا من يغني لنا، نسوا يغني علينا بالاغنية الشهيرة علي أوتار الاصلاح الزراعي التي مازالت كلماتها ترن في أذني.. "فدادين خمسة.. خمس فدادين"، والاغرب من الخيال ان الهجرة من الشمال والجنوب لم تزدد وتصبح ظاهرة مخيفة تهدد النسيج الطبيعي للمجتمع المصري وتوزيعاته الجغرافية بل وصلت الي درجة التوحش الا بعد توزيع الخمسة فدادين أغلي هدايا قانون الاصلاح الزراعي التاريخي "فدادين خمسة.. خمس فدادين" فهل رفض الفلاحون الهدية؟! توافد اهل الريف من الشمال والجنوب قاصدين قلب العاصمة في اغلب الأحوال بعد مرور الكرام علي عواصم المحافظات بنسب متفاوتة- من اجل البحث عن لقمة العيش والهدمة، يعني باختصار "رحلة البحث عن الستر" لمن لم يصبه الدور من توزيع هدية الخمسة فدادين طبعا بعد التقاط صورة تذكارية- مع ولي النعم الخديو الجديد، الذي هبط علي أرض مصر بالبراشوت ليعيد توزيع الكون بمعرفته هو بقانون الاصلاح الزراعي المنافس الوحيد لقانون "حامورابي" ترك المزارع ارضه واسرته واهله وناسه وطفش الي الحضر، ليغيب في زحام المدن المتوحشة سنوات وسنوات. كان من الطبيعي ان تنشأ تجمعات عشوائية علي مرأي ومسمع من حكومات متتالية علي مدي نصف قرن كافية لميلاد دولة داخل دولة، حكومات لم تسمع عن شيء اسمه التخطيط العمراني بقانون يجابه العشوائيات علي غرار الحكومات التي تحترم المنظومة المجتمعية سواء في المدن أو الريف، نشأت مجتمعات صغيرة متجانسة بصورة عشوائية داخل بنايات بدائية بالمجهودات الذاتية بعيدا عما كان يعرف وقتها بالبلديات أو مجالس الاحياء، وكل التجمعات بطبيعة الحال مفتقدة الي الصحة العامة والأمن والأمان ، فتنعش الأوبئة والأمراض بين كل طبقة مهاجرة، فضلا عن بيئة صالحة فقط لاحتضان الجريمة بجميع اشكالها، فعلي سبيل المثال "عرب المحمدي" وهي عزبة عشوائية ملاصقة لشارع "الملكة نازلي" فمنذ ان تم تغيير اسمه ابان العهد والمد الثوري المبارك الي شارع رمسيس، اما علي بعد خطوات فتظهر، إحدي المدن الفاضلة بحق التي ولدت مع الثورة وهي "عزبة الصفيح" وهي مدينة نموذجية بكل مقاييس التخطيط العمراني والجمالي فكل مكعب صفيح تحيض اسرة باكملها وعندما يأتي المساء فمن المؤكد انها تعلم الفضيلة عن الزوج والزوجة للاولاد، اماعلي بعد خطوات فهناك "اللهم لا حسد" "عزبة القرود" التي جمعت الحيوان والانسان في ملعب صفيح واحد ليس من اجل فضيلة احترام حقوق الحيوان فحسب بل من اجل تدريب القرود علي النشل في الموالد المزدحمة، القرد في عزبة القرود من القرود المعيلة اي تتولي الانفاق علي اسر باكملها حسب الارزاق في الموالد الكبيرة فلا غرابة ان ترفع عزبة القرود شعار "نموت.. نموت.. ويحيا ميمون"! هل كلفت خاطرها مراكز البحث الاجتماعي ووزارة التخطيط وعلماء النفس والاجتماع لدراسة هذه المجتمعات الغريبة في دولة ترفع شعار الحكومة الالكترونية من اجل القضاء علي العشوائيات، ولا حياة لمن تنادي، بعد ان فشل زكريا محيي الدين في القضاء علي العشوائيات القادمة من الجنوب والشمال بعد ان احتلوا الفجالة او شارع الثقافة في الزمن الجميل احتلوها بعربات اليد والحمير ولا تحدثونا عن عشوائيات العتبة والموسكي وسوق الخضار وشادر السمك حتي ظهور "البيه البواب"! فلسفة العمران في اي دولة تستند علي محورين، اما المحور الاول فهو التخطيط الافقي واما المحور الثاني فهو التخطيط الرأسي ويتبع المحوران التطوير الافقي والتطوير الرأسي والمصيبة الكبري اننا اختزلنا التخطيط الافقي في الستينيات من القرن الماضي في بناء المساكن الشعبية لمحدودي الدخل وكلنا يعلم كم أصبحت مع مرور الوقت من المناطق العشوائية بصفة رسمية حيث لم يطلها التطوير الرأسي لمساكن الغلابة الذي ينحصر معناه في تطوير ما هو قائم بالفعل حيث لا يتوافر البديل! "عزبة الورد" و"عزبة بلال" مناطق عشوائية علي حدود شبرا والشرابية في شمال العاصمة وأنها عزب مستوردة من الصين الشعبية لكثرة تعداد السكان بها بصورة عشوائية وكأن هؤلاء الناس قادمون من كوكب اخر من وراء ظهر الحكومة والمحافظة ومجالس الاحياء لذا فهم علي هامش الحياة بمعني الكلمة، اندلعت النار في المنطقة فجأة واستمر الحريق طوال الليل فلم يهدأ الا بعد ان أكل كل ما هو علي الارض من املاك الغلابة الذين فروا بارواحهم من جهنم، نحن الدولة الوحيدة في العالم التي تقوم باطفاء ابسط الحرائق في يوم كامل ولنا في مجلس الشوري الدرس والعبرة، مبني واحد يساوي "يوم عمل كامل" فما بالنا لا قدر الله لو توسع الحريق بالتأكيد سوف نواجه كارثة قومية، باتت المنظومة الاطفائية في مصر محتاجة لاعادة تقييم وتحديث وتدريب وموارد بشرية مختلفة، فقد مللنا من اغنية انتقل الي موقع الحادث او الحريق اللواء فلان والعميد علان لتفقد مسرح الحادث والسيطرة الكاملة علي الموقف، بعد ان راح كل شيء واحترق كل شيء وتشردت جموع البشر التي سوف تتسول غدا امام مبني المحافظة معسكرات ايواء، رحم الله حي الدويقة النائم في حضن الصخرة والذي اثبت اننا لا نملك منظومة ادارة الازمات والكوارث كما يجب حفاظا علي الارواح والممتلكات! بالامس.. ابلغني "صوت العصافير".. بعودة السحر.. من بلاد العم سام لم احترس.. فاخترقني السحر.. بكل الوان السهام نزفت حتي الاغماء.. فماذا بعد النزف.. الا الشهادة علي ارض الاوهام؟!