غدا تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ مصر عندما يعقد أول برلمان بعد الثورة - ولن أقول برلمان الثورة - جلسته الاولي ليبدأ فصلا تشريعيا مختلفا تماما - أو هذا ما يجب أن يكون - عن كل ما كان يحدث قبل ذلك .. فهذا البرلمان هو النتيجة المباشرة لإرادة الشعب التي عبر عنها من خلال صناديق الاقتراع وعلينا احترام هذه الإرادة إذا كنا نؤمن بالديمقراطية حقا، مهما كانت ملاحظاتنا وانتقاداتنا للعملية الانتخابية من ألفها الي يائها.. ويحل هذا الموعد التاريخي قبل يومين فقط من العيد الأول لثورة الخامس والعشرين من يناير التي وصفها العالم بأنها الثورة الاعظم في تاريخ البشرية، والتي ألهمت شعوب العالم ومنحتهم الامل في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وهي الشعارات التي رفعتها ورددتها الجماهير الغفيرة بصورة تلقائية في ميادين التحرير بمصر منذ اللحظة الاولي لإندلاع الثورة.. ورغم كل ما حققته ثورتنا العظيمة من تأثير علي شعوب العالم الحالمة بحياة افضل إلا أنها لم تحقق في الداخل أيا من أهدافها الكبري بصورة كاملة بعد.. فما زلنا أبعد ما نكون عن تحقيق الحرية والكرامة الانسانية والعيش (التنمية) والكرامة الانسانية .. وما زال نظام المخلوع حسني مبارك يحكم البلاد ويتحكم في مفاصل المجتمع بمختلف مؤسساته وفي تفاصيل حياتنا اليومية.. ويرجع ذلك في الاساس الي فشل المجلس الاعلي للقوات المسلحة في إدارة المرحلة الانتقالية وتقاعسه عن الاستجابة لمطالب الثوار واهمها محاكمة القتلة الذين أطلقوا الرصاص الحي بدم بارد وعن سابق الإصرار والترصد علي رءوس وقلوب وعيون اجمل وأنبل شباب مصر.. فالقصاص العادل لدماء الشهداء والمصابين هو السبيل الوحيد لإطفاء النيران التي تستعر في قلوب اهاليهم وانصارهم ورفاقهم من شباب الثوار .. أما كل ما عدا ذلك من تعويضات ومعاشات واوسمة فلن يكون سوي ضرب من صب الزيت علي النار إذا ظلت العدالة غائبة أو مغيبة.. وأنا لا أتفق بأي حال مع مَن وصفوا البرلمان الجديد بأنه وليد مشوه لأنه نتيجة علاقة غير سوية بين المجلس العسكري والتيار الاسلامي، بل إنني أتصور أنه سيكون من اهم المجالس النيابية في تاريخ مصر الحديث لعدة أسباب أهمها أن نشاطه سيكون خاضعا لرقابة شعب حر نجح في كسر حاجز الخوف ولن يفرط في حقوقه أو يتسامح مع أي تقصير في الوفاء بها.. وسيكون أيضا تحت عيون شباب مسلح بأحدث وسائل الإعلام والاتصال والتواصل الاجتماعي ولن يتركوا شاردة ولا واردة دون تسجيلها وتداولها وقتلها بحثا وتحليلا.. فلا شيء بعد اليوم سيمر مرور الكرام بعيدا عن أعين الشعب ولن نقبل الانتقال الآلي الي جدول الأعمال بعد الموافقة علي مشروعات قوانين ترقي الي جريمة الخيانة العظمي.. فضلا عن أن النواب جميعا يدركون جيدا أنه إذا كان الصوت الانتخابي قد جاء بهم الي مقاعد البرلمان فإن الصوت الاحتجاجي سيظل ملكا للجماهير في الميدان، كما أكد خبير التنمية العالمي الدكتور سمير عليش، أي أن الشرعية الثورية ستظل ملكا للجماهير في الميدان وهي تعلو علي شرعية البرلمان، وبصفة خاصة البرلمان الجديد الذي يعلم معظم أعضائه تماما أنه لولا دماء الشهداء التي روت ميدان التحرير وكل الشوارع المحيطة به والقريبة منه، إضافة الي كل الدماء الطاهرة التي ضمخت وطهرت جميع شوارع وميادين مصر، ما كان من الممكن أن يطوف بخيالهم مجرد الحلم بالترشح لتمثيل الشعب وليس النجاح وباكتساح.. فطريقهم الي البرلمان مخضب ومعبد بدماء أنبل وأجمل وأطهر من انجبت المحروسة.. وبناء عليه فإن هذه الدماء ستظل دينا في رقاب النواب الجدد، ولن تهدأ ارواح الشهداء أو تبرد النيران المتأججة في قلوب أهلهم وأحبائهم ورفاقهم من المناضلين، وخاصة المصابين، إلا بالقصاص العادل.. ولن يرضي الشعب، مصدر كل السلطات، من البرلمان بأقل من تشكيل لجنة من أعضائه ومن قضاة عدول مشهود لهم بالاستقلال والنزاهة ومقاومة الفساد للتحقيق في مقتل وإصابة مئات الثوار منذ اندلاع الثورة وحتي بدء جلساته، وسرعة تقديم كل القتلة والمحرضين والمتواطئين الي العدالة، وكذلك سرعة اتخاذ الاجراءات اللازمة لبدء محاكمة سياسية ثورية للرئيس المخلوع واسرته وجميع اركان نظامه بتهمة افساد الحياة السياسية ونهب اموال الشعب وتبديد الثروة القومية.. مع توجيه تهمة الخيانة العظمي لحسني مبارك عقابا له علي الحنث باليمين الدستورية حيث أقسم بالحفاظ علي النظام الجمهوري ولكنه بدأ خطوات فعلية تمهيدا لتوريث الحكم بما يعنيه ذلك من تقويض للنظام الجمهوري، ناهيك عن تشويه الدستور والعبث به.. وإذا أضفنا الي كل الاعتبارات السابقة أن الكثير من النواب الجدد ينتمون للثورة وأنهم مطالبون بأن يثبتوا لرفاق الميدان أنهم لا يزالون علي العهد وأن مشاركتهم في العملية الانتخابية " المتعجلة والمبتسرة" لم يكن خيانة للثورة وإنما محاولة لحمايتها من خلال سن التشريعات التي تضمن ذلك في مجلس الشعب، فإن المرجح أن نشهد فصلا تشريعيا حافلا بالنشاط ومشتعلا بالحماس .. واما إذا وضعنا في الحسبان أن عيون مصر ودول المنطقة والعالم ستكون مفتوحة علي آخرها لتري أول تجربة لحكم تيار اسلامي سني اصولي في العالم (لا مجال للمقارنة مع التجربتين التركية والماليزية اللتين حققتا معجزتهما الاقتصادية في ظل نظامين علمانيين) فإن التوقعات ستتجاوز كل السقوف.. ولكن سيظل نجاح هذا البرلمان وشرعيته مرهونين بالولاء للثورة وتحقيق جميع أهدافها وكذلك نقل السلطة الي المدنيين .. أما غير ذلك أو أقل من ذلك فإن الكلمة والشرعية ستكون للميدان..