علي مدار التاريخ, كانت ثورات الشعوب تكلل دوما بالانتصار, ويكتب لشعاراتها ومبادئها ومطالبها حياة دائمة متجددة, تكون بمثابة عودة الروح, وشاطيء النجاة, والأمل المضيء للمستقبل. وفي ثورة شباب مصر, التي آزرها الشعب والتف من حولها, منذ اللحظة الأولي, ارتفعت الرايات, وانطلقت الهتافات, وأشرقت شمس الحرية. ومن بين هؤلاء الشباب كان شهداء الثورة الذين افتدوا الوطن بأرواحهم, بعد أن تلقوا برؤوسهم وعيونهم وصدورهم رصاص الذين أجرموا في حق الوطن, وأصبحوا وصمة خزي وعار في تاريخه, في حين أشرقت صفحة الشهداء, أنبل من أنجبهم هذا الوطن, وأكثرهم استحقاقا لمعاني الإكبار والإجلال, والبقاء أحياء في سجل الخلود. من هنا كان التفات الشعراء, الي منزلة الشهيد وعظمة استشهاده, والي رسم صور موحية, ولوحات بديعة, تسجل الملامح والمواقف, وتتوهج بروح البطولة وقدر التضحية, وتتغني بما له من منزلة رفيعة, في الأرض والسماء, وهو المعني الذي جسده الشاعر محمود حسن اسماعيل في قصيدته موسيقي من الشهداء عندما قال: ماذا أغني ؟ والسماء بقدسها وبنورها, غنت لهم ؟ والأرض لملمت العبير, وضمخته بعاطر من ذكرهم والله قربهم, ومد العرش أظلالا لرفرف خلدهم وكتائب الأحرار شدت في النضال ضياءها من دربهم وخطي الشعوب تضل إن لم تستمد حياتها من خطوهم عرفوا طريق الخلد, قاتجهوا إليه وعانقوه بعمرهم وبروحهم وبسرهم! واللوحة الشعرية التي رسمها محمود حسن اسماعيل تقوم علي معجم يرتبط ارتباطا حميما بالسماء وقدسها, والذكر العاطر, والعرش, ورفرف الخلد, والعناق بالعمر والروح والسر, فكان هذا الجو المفعم بعطر إيماني, ويقين في الثواب المنتظر, والخلود في مملكة السماء. وتنبض بلون من الوجد الشعوي الذي صب فيه الشاعر روحه ووجدانه وعاطفته, وإجلاله لهؤلاء الشهداء الذين يري فيهم كما نري جميعا أنبل الناس وأكثرهم تجسيدا لمعني الوطنية والتضحية. ومحمود حسن إسماعيل هو الذي يجسد لنا في موضع آخر من شعره صورة الشهيد عندما يقول: من دمك الغالي قبست النشيد ياراقدا تحت ظلال الخلود إن لم تكن وحيا لشعري, فمن يوحي نشيد النيل غير الشهيد ؟ لفظ إذا مارن في مسمع خفت به الدنيا وطار الوجود حر رأي الأغلال موثوقة أحكمها في الطوق ليل جحود فهب كالإعصار في صرخة تهزم في الوادي هزيم الرعود وقال والموت علي كفه لا تفزعي يامصر, إني شهيد هل كان الشاعر الراحل محمود حسن اسماعيل بيننا, يجوس في ميدان التحرير بين موج الثائرين الذين ازدحمت بهم ساحات مصر, يوم قاموا وثاروا وأقسموا لا تنتهي ثورتهم حتي تتحقق لمصر آمالها في الحرية والعزة والكرامة, وحتي يسقط النظام الأسود الذي أسدل عليها ظلماته ثلاثين عاما متتابعة ؟ هاهو ذا الشاعر المطل علينا بروحه, والمشارك في ثورتنا بكلماته, يدعو لثورتنا بالظفر والانتصار, وينشد علي أسماعنا قصيدته أمام النصب التذكاري لشهداء الوطنية في مصر, ويقول: وإذ بروح من بنيها سري مطهر القلب كروح الوليد وخر في الأرض علي وجهه قداسة التقوي وطهر السجود شعاعة للحق من جفنه تبقي منارا هاديا للوجود وخفقة ماتت علي ثغره كادت لها شم الرواسي تميد أنشودة علوية أصبحت في عالم الألحان لحنا جديد يامصر: لا تبكي علي مصرعي يوما, فإني سائر للخلود! وتبقي هذه اللوحة الشعرية البديعة, لا تغادر ألوانها وخطوطها وظلالها العين والقلب, قصيدة لكل شهداء مصر علي تعاقب العصور والأزمان, ترددها اليوم في وقفة الإكبار لشهداء ثورة الخامس والعشرين من يناير. المزيد من مقالات فاروق شوشة