عبدالقادر شهىب كما ان الاخلاق لا تتجزأ، فان الديمقراطية هي الاخري لا تتجزأ.. فاذا كان لا يستقيم ان يكون المرء صالحا بعض الوقت وفاسدا بقية الوقت، فانه لا يصح أن يكون الذي يؤمن بالديمقراطية ملتزما بالقانون احيانا ومتمردا علي القانون احيانا اخري. فالديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخابات، انما هي مجموعة من القيم يتحلي بها من يؤمنون بالديمقراطية والمجتمع الديمقراطي، وفي مقدمة هذه القيم الايمان أن الجميع امام القانون سواء، وليس هناك مهما كان شأنه اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا فوق القانون.. لذلك لا يصح ان يدعي احد انه ديمقراطي ويرفض الامتثال للقانون أو يعتبر تطبيق القانون عليه هجوما ضد الديمقراطية.. اما من يقول انه من حماة الديمقراطية والساهرين علي صيانة حقوق الانسان، فانه يتعين عليه ان يكون قدوة في هذا الشأن، أي أول من يمتثل لحكم القانون. وبالتالي لا افهم وأتعجب من الضجة التي اثارها البعض لتطبيق القانون في موضوع التمويل الاجنبي لمنظمات المجتمع المدني، خاصة ان هؤلاء لا يكفون عن الحديث حول اموال اجنبية ضخمة تتدفق بغزارة علي مصر بعد الثورة.. بل انهم يشيرون في منتدياتهم ولقاءاتهم الخاصة باصابع الاتهام إلي اشخاص وهيئات ومنظمات بل احزاب محددة! لا افهم ان ينزعج البعض من ان يكون تمويل منظمات المجتمع المدني المصرية من قبل حكومات ومنظمات اجنبية علينا، ومعروفا حجمه واغراض الحصول عليه وكيف وفيما ينفق، ويصرون علي ان يكون هذا التمويل سرا!!.. ان التمويل الاجنبي لمنظمات المجتمع المدني ليس شرا وليس مرفوضا.. بل علي العكس هذا التمويل مطلوب وضروري نظرا لعدم كفاية التمويل المحلي لمنظمات المجتمع المدني.. لكن هذا التمويل يجب ان يتم في النور وعلنا مادام يستخدم في اغراض لا تتعارض مع القانون، أو يخرج عن نطاق عمل المجتمع المدني، أو يتسرب إلي احزاب وكيانات سياسية.. ثم ان التحقيق الجاري الان بخصوص التمويل الاجنبي لعدد من الجمعيات الاهلية كان يطالب به بعض من طالتهم الاتهامات.. كما طالبوا بالاسراع في الانتهاء منه.. فلماذا الانزعاج والضيق عندما بدأ التحقيق يتحرك في اتجاه كشف الحقيقة لإنصاف من طالتهم خطأ الاتهامات ومحاسبة من ارتكب خطأ قانونيا؟! ان لدينا اكثر من 53 ألف جمعية اهلية، من بينها نحو 002 منظمة حقوقية تعمل في مجال حقوق الانسان.. وما تم تفتيش مقاره حتي الان لا يتجاوز سبعة جمعيات مصرية وثلاثة اجنبية.. وحتي اذا اتخذ المحققون اجراءات اخري تجاه عدد اخر من المنظمات فان ذلك في الاغلب لن يتجاوز الاربعين منظمة وجمعية، الاغلب منها يعمل بدون ترخيص قانوني أو في اطار قانون الشركات اي ان اغلبية المنظمات الحقوقية بعيدة عن هذا التحقيق. ولا احد يقلل من شأن وأهمية الدور الذي لعبته ومازالت تلعبه المنظمات الحقوقية في المجتمع المدني المصري.. بل ان كل منظمات المجتمع المدني، بكل انواعها الخيري والخدمي والتنموي والحقوقي، تمثل ركنا مهما في أي مجتمع ديمقراطي.. ولكن نشاط وتمويل المجتمع المدني لا يصح ان يكون سريا.. فقوة منظمات المجتمع المدني في علنيتها وفعاليتها في التزامها قبل غيرها بالقانون. واذا كان البعض يشكو قبل الثورة من صعوبة الحصول علي ترخيص لاقامة جمعية اهلية فانه لم يعد ثمة مجال لهذه الشكوي بعدها.. فقد وافقت وزارة التضامن الاجتماعي خلال عشرة اشهر العام الماضي علي اكثر من ثلاثة آلاف جمعية تمثل نسبة 9٪ من اجمالي عدد الجمعيات الاهلية العاملة في البلاد. لقد كشفت عدد من الدراسات الميدانية عن منظمات المجتمع المدني في مصر ودول عربية اخري ان باب النجار مخلع في المجتمع المدني.. اي ان هناك منظمات مجتمع مدني، ومنها منظمات حقوقية تفتقد للقيم الديمقراطية.. فهي - كما اوردت د.اماني قنديل في احدث كتبها - تعاني من ضعف العمل الجماعي وروح الفريق داخلها، وضعف الممارسة الديمقراطية فيها.. حيث يتم فيها تهميش للجمعيات العمومية لها وتركيز اتخاذ القرار داخل مجلس الادارة، خاصة رئيسه مع استمرارية القيادات المؤسسة لها مسيطرة علي ادارتها.. وقد رصدت هذه الدراسات الميدانية رفض نحو ثلث هذه الجمعيات الكشف عن ميزانيتها امام الرأي العام. وهكذا .. اذا كان فاقد الشيء لا يعطيه فكيف ستمارس هذه المنظمات دورها في نشر الديمقراطية وحمايتها وهي تفتقد الممارسة الديمقراطية داخلها؟! إذن.. فان الخطوة الاولي امام منظمات المجتمع المدني للمشاركة في صناعة الديمقراطية هي ان تبدأ بنفسها وتطبق القيم الديمقراطية أو علي نفسها، واول اجراء هنا، هو ان تمتثل للقانون، وان تعمل في النور، وتفصح عن مصادر تمويلها.. هنا لن يكون باب النجار مخلعا، وانما ستكون هذه المنظمات ذات فعالية كبيرة وواسعة. ونتمني ان يختفي الترحيب الذي ابداه البعض برد الفعل الامريكي والالماني الغاضب من الاجراء القانوني الخاص بتفتيش فروع منظمات امريكية والمانية في مصر.. فهذا امر محسوب علي من يبدون هذا الترحيب وليس محسوبا لصالحهم امام الرأي العام الذي يسعون لكسبه.. وليعلم هؤلاء ان ثمة رفضا وطنيا عاما في مصر، حتي في ظل العولمة، للتدخل في الشئون الداخلية. اما تهديدات بعض المسئولين الامريكيين بقطع المساعدات العسكرية لمصر، فكم نتمني ان ينفذوا بالفعل هذه التهديدات.. فنحن لسنا وحدنا المستفيدين من هذه المساعدات.. فهم الاكثر استفادة منها، كما اكد رئيسهم السابق بيل كلينتون، الذي قال ان كل دولار مساعدات امريكية لمصر تسترد منه امريكا 08 سنتا.. ثم ان هذه المساعدات تستخدم للتدخل في شئوننا الداخلية بالفعل، مثلما حدث مؤخرا حينما ارجأت واشنطن صفقة معدات عسكرية في اطار هذه المساعدات حتي يتم الافراج عن الجاسوس الاسرائيلي.. والغاء المساعدات سوف يفقد واشنطن سلاحا تستخدمه للتدخل في شئوننا.. فأهلا به.