أحاطت بها مجموعة كبيرة من سيدات المجتمع السوداني وطلبن منها أن تذهب معهن لتشهد أحد حفلات الزواج السوداني وطقوس حنة العروس. من أمثال الشعب الفرنسي المثل الذي يقول ( ثلاثة تجلب الذكريات.. المكان.. والموسيقي..والعطر ). وقد أحاطت بي الذكريات قبل أيام وأنا أمر في شارع البطل أحمد عبد العزيز المتفرع من شارع الساحة بوسط القاهرة الخديوية وهو غير الشارع الذي يحمل ذات الاسم في منطقة المهندسين وتداعت الأشجان وأنا أقف علي باب العمارة رقم 10 وتعود بي الذكريات إلي ما يزيد علي ستين عاما واحتفالات عيد ثورة يوليو52 الخامس عام 1957 حيث تجمع في شارع البطل أحمد عبد العزيز العديد من رموز الفن السوداني من أهل الشعر والغناء والمسرح والذين حضروا إلي القاهرة للمشاركة في احتفالات مصر بعيد الثورة، وأذكر منهم عميد الفن احمد المصطفي وأبو الفن إبراهيم الكاشف والفنان الكبير التاج مصطفي والفنان المبدع عبيد الطيب وبالقرب من الشارع كان يقيم أمير العود الفنان حسن عطية وكان يعيش بالقاهرة في ذاك الحين ثلاثة من ألمع نجوم الطرب السوداني وهم: سيد خليفة صاحب المامبو الشهيرة ومحمد الحويج وأحمد عبد الرازق وثلاثتهم من الذين قدمتهم إلي الجمهور السوداني والعربي إذاعة ركن السودان من القاهرة، وكان هناك أيضا شيخ الملحنين السودانيين برعي محمد دفع الله ومن الممثلين وأهل المسرح إسماعيل خورشيد وعثمان علي حسن وعثمان زوكوف وأحمد عثمان عيسي وكاتب هذه السطور. ورحلة القدوم إلي القاهرة لحضور احتفالات عيد الثورة كان لها صلة وارتباط بحدث كبير علي أرض النيل هذا الحدث هو العدوان الثلاثي علي مصر في نهاية أكتوبر عام 1956 فبمجرد وصول أخبار العدوان الثلاثي أوقفت الإذاعة السودانية برامجها العادية وبدأت في بث البرامج والأناشيد الحماسية منددة بالعدوان ومناصرة لجيش مصر وشعبها، واندفع أهل الفن السوداني من شعراء وكتاب وفنانين إلي دار الإذاعة للمساهمة في إعداد وتقديم البرامج الحماسية في مواجهة ذلك العدوان، وغني عميد الفن السوداني أحمد المصطفي أغنية صارت بعد ذلك من أشهر أغنياته الوطنية والتي يقول مطلعها : أخي العربي أخو كل حر لنسلك دربا مشته مصر وسجل الفنان التاج مصطفي أغنية النضال يا رجال إلي القنال إلي القنال.. وبعد فترة من إذاعة هذه الأعمال الجديدة فاجأ الجميع الأستاذ متولي عيد مدير إذاعة أم درمان بأن السيد عبد الله بك خليل رئيس الوزراء ووزير الدفاع قد اتصل به وشكره علي ما قامت به الإذاعة السودانية وأشاد بما قدمته مجموعة الفنانين السودانيين من مناصرة ودعم للجيش المصري، وكان هذا الأمر مثار دهشة من الجميع لأنهم يعرفون بأن لعبد الله خليل وهو الأمين العام بحزب الأمة مواقف لا تخلو من التشدد مع مصر رغم صداقته بالعديد من زعماء مصر ومنهم فؤاد سراج الدين باشا وعثمان محرم من قيادات حزب الوفد وصلة قديمة مع اللواء محمد نجيب الذي تولي قيادة مجلس الثورة في صبيحة 23 يوليو 1952 ومن أصدقائه أيضا الشيخ زاهر سرور السادات أحد دعاة وحدة وادي النيل المتحمسين وفيما بعد انتشر الخبر الذي يقول إن زاهر سرور السادات ذهب إلي عبد الله بك في وزارة الدفاع في اليوم الثاني للعدوان وطلب منه إرسال الجيش السوداني إلي جبهة السويس ولكن عبد الله خليل قال للسادات إن في هذا الأمر الكثير من التعقيدات واقترح عليه حلا يحقق الغرض المطلوب وهو أن يتم إعلان فتح باب التطوع للشباب الذين يريدون الالتحاق بجيش مصر علي جبهة السويس لصد العدوان.. وكلف عبد الله خليل زاهر سرور السادات بأن يتولي هذا الأمر ويعلنه من دار الإذاعة بنفسه وهذا ما حدث. وكان متولي عيد بعد أن أبلغنا تهاني رئيس الوزراء علي ما قدمنا من أعمال قال لنا إنه يريد منكم جميعا أن تذهبوا إلي استوديوهات ركن السودان في سفارة جمهورية مصر بحي المقرن بالخرطوم لتسجيل هذه الأعمال لإذاعتها من إذاعات القاهرة، وأبلغنا بأن عبد الله بك قد حدد لنا موعدا في صباح اليوم التالي للذهاب إلي استوديوهات إذاعة ركن السودان.. وفعلا كان في استقبالنا مدير الاستديو الأستاذ محمد الأمين عبد الفتاح وعدد من مهندسي التسجيلات وقمنا بتسجيل الكثير من الأعمال الفنية الحماسية لإرسالها إلي القاهرة.. وبعد نهاية التسجيل تم إبلاغنا بأن سفير مصر بالخرطوم اللواء محمود سيف اليزل خليفة يدعونا لتناول وجبة الغداء علي مائدته، وقبل تناول الطعام وجه لنا السيد السفير كلمات الشكر والتقدير وودعنا بنفسه ونحن نخرج من باب السفارة.. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل جاءتنا الأخبار السعيدة في بداية شهر يوليو عام 1957 وبعد هزيمة العدوان الثلاثي وانتصار مصر الكبير بأننا جميعا مدعوون لحضور احتفالات عيد الثورة بمصر وتحركت مجموعة الفنانين من الخرطوم علي قطار حلفا ومن حلفا بحرا إلي الشلال في أسوان ومن أسوان إلي القاهرة في القطار الفاخر وكان في استقبالنا في محطة القاهرة في باب الحديد أكثر من مندوب من وزارة الإرشاد القومي صاحبة الدعوة وتحركت بنا السيارات إلي شارع البطل أحمد عبد العزيز حيث كانت إقامتنا المحاطة بالرعاية والتقدير والتكريم ووضعت لنا الوزارة برنامجا حافلا خلال الاحتفالات بأعياد ثورة يوليو وكان ختام هذا البرنامج الحفل الذي أقامته الفنانة فايدة كامل بمنزلها تكريما لأهل الفن السوداني.. تداعت تلك الذكريات التي تحمل العديد من المعاني إلي خاطري وأنا أمر في شارع البطل أحمد عبد العزيز. أم كلثوم.. في الخرطوم وتمضي بنا الخواطر ودوران عجلة الأيام إلي الأمام إلي العام 1968 ففي هذا العام كانت الزيارة الأولي والأخيرة لكوكب الشرق وسيدة الغناء العربي أم كلثوم إلي عاصمة السودان الخرطوم وكانت تلك الزيارة حدثا فنيا وتاريخيا وسياسيا نادرا، وقد جاءت الزيارة في إطار برنامج حفلات كوكب الشرق في البلاد العربية لدعم المجهود الحربي بعد عدوان 1967 وكانت بداية الزيارة ذلك الاستقبال الأسطوري من جماهير الشعب السوداني لأم كلثوم وهو أشبه باستقبال السودانيين للزعيم جمال عبد الناصر عند حضوره إلي الخرطوم لحضور مؤتمر القمة الذي انعقد هناك بعد النكسة، وهو الاستقبال الذي أخرس صحيفة (الجارديان) البريطانية التي قالت في أحد عناوينها البارزة الخرطوم تستقبل القائد المهزوم استقبال المنتصرين، وقد تكرر مشهد استقبال الزعيم جمال عبد الناصر في استقبال سيدة الغناء العربي أم كلثوم، لقد احتشدت الجماهير بالآلاف المؤلفة علي امتداد الطريق من مطار الخرطوم حتي شارع النيل الأزرق حيث فندق السودان الذي أقامت فيه كوكب الشرق.. ولم تشهد الخرطوم مثل هذه الحشود والاستقبالات إلا لجمال عبد الناصر وكوكب الشرق أم كلثوم.. وعند وصولها إلي الفندق علي شاطئ النيل الأزرق ظلت الجماهير تحتشد وتتقاطر لتحيتها وأحاطت بها مجموعة كبيرة من سيدات المجتمع السوداني وطلبن منها أن تذهب معهن لتشهد أحد حفلات الزواج السوداني وطقوس حنة العروس ووافقت علي ذلك بعد تدخل من وزير الإعلام الأستاذ عبد الماجد أبو حسبو الذي صاحبها إلي بيت الحفل في أحد أحياء الخرطوم الراقية وهو حي الخرطوم اثنين وكانت المفاجأة في بيت الحفل استقبال الفتيات السودانيات لأم كلثوم بإنشاد أغنيتها الشهيرة (يا ليلة العيد آنستينا) ولم تصدق كوكب الشرق بأن فتيات السودان يحفظن أغنياتها وقد أصرت أم العروس علي وضع الحنة في خنصر يد أم كلثوم اليسري كما هي العادة في مثل هذه المناسبات، وفي اليوم التالي صدر كتاب عن حياة وتاريخ وفن أم كلثوم من تأليف السياسي السوداني البارز وعضو البرلمان حسن الطاهر زروق أشهر عشاق أم كلثوم في السودان. وكان حفل أم كلثوم في المسرح القومي بأم درمان حفلا غير مسبوق فقد احتشد الآلاف من أبناء العاصمة والأقاليم لحضور حفل كوكب الشرق وقد كان داخل صالة المسرح القومي الكبيرة ما يقرب من ثلاثة آلاف وكان مثلهم يحتشدون علي شاطئ النيل أمام المسرح ويتابعون الحفل من خلال مكبرات الصوت التي جهزتها إدارة المسرح.. وغنت كوكب الشرق في تلك الليلة الخالدة أغنية أنت عمري ثم ختمت بأغنية هذه ليلتي. وقد ترك الاستقبال الجماهيري والتجاوب الكبير مع أم كلثوم أثرا قويا في نفسها صاحبها بعد عودتها إلي القاهرة ووجدت أن هذا الجمهور يستحق رد التحية فقررت أن تغني قصيدة من الشعر السوداني ولذلك اتصلت برئيس الإذاعة المصرية عبد الحميد الحديدي وطلبت منه أن يحضر لها بعض دواوين الشعر السوداني، واتصل عبد الحميد الحديدي بالدكتور محمد المعتصم سيد مدير إذاعة ركن السودان ليبلغه طلب السيدة أم كلثوم وكلف الدكتور معتصم رئيس قسم الغناء في ركن السودان فؤاد عمر وكلفني معه بأن نحضر له فورا وحالا وعاجلا مجموعة من دواوين الشعر السوداني فخرجنا من دار الإذاعة إلي وسط القاهرة ومررنا علي أكثر من عشر مكتبات فلم نحصل علي أي ديوان من الشعر السوداني وقبيل الغروب تركني فؤاد عمر وذهب إلي منزله في شارع حسن الأكبر بعابدين، وجلست أنا في أحد المقاهي بشارع محمد فريد أفكر كيف أجد ديوانا من الشعر السوداني فدلني أحد رواد المقهي وهو الفنان النوبي الشهير علي كوبان بأن هناك مكتبة في شارع مصطفي كامل بالقرب منا تعرض الكتب السودانية فهرعت مسرعا تاركا فنجان القهوة الذي طلبته وذهبت إلي مكتبة ( محمد حسن الكاملابي ) وعثرت هناك علي ما أريد فقد وجدت لديه ديوانين من الشعر السوداني الفصيح أحدهما هو ديوان ( طائر الليل ) وهو من الشعر الحديث تأليف الإذاعي حسن عباس صبحي الذي بدأ بالإذاعة السودانية ثم انتقل إلي ركن السودان لفترة ثم ذهب إلي إذاعة لندن واستقال من العمل فيها صبيحة يوم العدوان في الخامس من يوليو 1967 رافضا إذاعة أخبار وتعليقات إذاعة لندن عن العدوان، وكان ذلك موقفا وطنيا بطوليا لا ينسي للإعلامي السوداني المرحوم حسن عباس صبحي، أما الديوان الثاني فقد كان (كوخ الأشواق) للشاعر الهادي آدم وهو أحد الزملاء الذين قدمنا لهم التمثيليات الشعرية من الإذاعة السودانية (هنا أم درمان) وفي صبيحة اليوم التالي كان طائر الليل وكوخ الأشواق في مكتب الأستاذ عبد الحميد الحديدي الذي أرسلهما فورا إلي كوكب الشرق ليتسلمهما شاعر الشباب أحمد رامي ليتم الاختيار منهما، وبعد فترة قصيرة كان أحمد رامي قد اختار مقاطع من قصيدة (أغدا ألقاك) إحدي قصائد ديوان كوخ الأشواق للشاعر الهادي آدم ثم كانت رحلة التلحين والبروفات ليستمع الجمهور السوداني والعربي لأول مرة إلي أم كلثوم وهي تشدو بقصيدة من الشعر السوداني.. وقد نسجت الكثير من الحكايات حول الأغنية بعد نجاحها الكبير الذي حققته ومن تلك الحكايات المتداولة إن الشاعر الهادي آدم كان في زيارة للقاهرة ويقيم في أحد الفنادق وأبلغه المسئول في الفندق أن سيدة الغناء العربي أم كلثوم تريد أن تراه في اليوم التالي فجلس وكتب (أغدا ألقاك) فهذه قصة من نسج الخيال التي تدور حول الكثير من الأغنيات وكيف كانت لحظات ميلادها وهي حكايات يتسلي بها الجمهور ولا صلة لها بواقع الحال. • الكاتب من السودان الشقيق مقيم بالقاهرة