استلهمت عنوان هذه السطور من سلسلة مقالاتي الشهيرة »الشوارعيزم«، إذ رأيت أن الأستاذ الدكتور يحيي الجمل نائب رئيس الوزراء استحدث وسائلاً في الأداء والسلوك السياسيين ارتبطت باسمه، وعبرت عنه، ودلت عليه فأصبحت جميعها طريقة ليس لها شبيه، ومن ثم حق عليها أن تتسمي »الجمليزم« نسبة إلي هذا الرجل الذي يواصل إدهاشنا كل يوم. وأقسم أنني لم أك أنوي التعرض لشخص الدكتور يحيي الجمل لمرة أخري بعد مقال الخميس الماضي.. إذ خشيت تصور الرجل أنني أترصده، أو أتقصده، أو أتصيد له، فيما زلاته وسقطاته كما هو واضح للعموم أكثر من أن يتصيدها كاتب. كما لا أسمح لنفسي بأن تبدو كلماتي ساخرة من رجل يكبرني بثلاثة عقود، إذ أروض قلمي علي العفة والنبل، ومخاصمة التغول والخسة.. فأي انتصار هذا الذي يحققه المرء حين يسخر من رجل طاعن في السن، وله في نهاية المطاف تاريخ علمي ومهني ينبغي أن يبيت محل تقدير وحماية. وبناء عليه.. كنت قررت الإقلاع عن كتابة ما يمس الأستاذ يحيي الجمل وطرائفه وأعرافه العجيبة التي استعرضها علي المجتمع السياسي تحت أكبر مساحة من الضوء. وحتي حين وضع الدكتور يحيي الجمل لمسته في موضوع تشكيل المجلس القومي لحقوق الإنسان لم أرد الإشارة إلي أنه ليس صاحب اختصاص البتة في هذا التشكيل، لأن المجلس القومي لحقوق الإنسان نشأ بمقتضي معاهدة باريس، وصاحب الاختصاص في تشكيله هو مجلس الشوري الذي انحل، ومن ثم انتقلت الصلاحية إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة وليس إلي يحيي الجمل. ومن ضمن مهام المجلس القومي الرقابة علي عمل السلطة التنفيذية فيما يخص حقوق الإنسان، وبالتالي فليس من المنطقي أو المعقول، أو المقبول أن يقوم ممثل للسلطة التنفيذية »نائب رئيس الوزراء« بتشكيل المجلس القومي لحقوق الإنسان، وإلا أصبح المجلس »بلغة مظاهرات ثورة يناير« باطل. نعم.. آثرت الصمت وعدم التعرض للدكتور يحيي الجمل، مكتفياً بإشارات حفل بها مقالي في الأسبوع الماضي الذي تناول عدم صلاحية الرجل، وضرورة أن نتكاتف جميعاً لحمايته من نفسه، والمحافظة علي اسمه وتاريخه.. ولكن الدكتور يحيي الجمل مع سبق الإصرار أراد أن يدفعني إلي معاودة الحديث عنه، إذ أدلي بتصريح عجيب للتليفزيون الرسمي مساء الأحد الفائت نقلته عنه الصحف السيارة في اليوم التالي مُركزاً علي نقطتين: أنه لم يستقل من منصبه كنائب لرئيس مجلس الوزراء. أن علاقته طيبة بالأستاذ الدكتور عصام شرف رئيس الحكومة. والحقيقة أن ذلك التصريح كان كارثياً بدرجة تفرض علينا مناقشته لأنه تمثيل وتجل دقيق جداً لظاهرة »الجمليزم«.. وأوجز نقاط مناقشتي لتصريح نائب رئيس الوزراء في التالي: أولاً: إن أحداً من آمري الأقلام وأصحاب البيان لم يذكر حرفاً في تناوله لتصرفات يحيي الجمل عن »استقالة« وإنما كان كل الحديث عن إقالته!.. ومن ثم انتفت إرادة المذكور في ذلك الموقف. ثانياً: إن إقالة الأستاذ الدكتور الجمل كما ترددت كمطلب شعبي في ميدان التحرير يوم الجمعة قبل الفائت، أو في كل مجالس المدينة منذ شهور لم تأت معلقة من شواشيها أو جذورها في الهواء مفتقدة الحيثيات والذرائع، وبحيث تبدو عملاً استبدادياً يستهدف النيل من الرجل أو نثر البقع السوداء علي ثوبه، في أمجد وأحلي لحظات حياته التي صار فيها نائباً لرئيس الوزراء، ولكن المناداة بإقالة د. يحيي الجمل كانت مسببة ومنطقية إلي أبعد الحدود تعددت مبرراتها من الإخفاق في إدارة عملية التغييرات الصحفية بما أدي إلي إسنادها للدكتور عمرو عزت سلامة وزير التعليم العالي، إلي الفشل في إدارة الحوار الوطني بما أي إلي إسنادها للدكتور عبدالعزيز حجازي، إلي التشكيل العجيب لمجلس حقوق الإنسان، إلي الاقتصار علي الأصدقاء والمعارف والأحبة والخلان في التنادي والدعوة إلي اجتماعات المجلس الأعلي للقوات المسلحة، أو مجلس الوزراء بالصحفيين والمثقفين والأدباء والإعلاميين.. وأخيراً كان المشهد المذهل في المنظومة هو اختتام جلسات الحوار الوطني بإعلان الرجل الجهوري الجسور عن ذهابه إلي »بيت الأدب«. ثالثاً: قال الدكتور يحيي الجمل نائب رئيس الوزراء في تصريحه، إن علاقته برئيس الوزراء الأستاذ الدكتور عصام شرف طيبة.. والحقيقة أن ذلك الجانب من »الجمليزم« كان خطيراً بالفعل، لأنه يشير علي نحو مباشر إلي أن رئيس الوزراء راض كل الرضاء عن أفعال الدكتور الجمل، ومن ثم فقد ظلت علاقتهما طيبة علي الرغم من كل الحرج الناجم عن تصرفات الجمل. وربما كان المقصود بعبارة أن علاقة د. يحيي الجمل ود. عصام شرف »طيبة« هو الفصل بين الجواب الإنسانية والعمل المهني. ومن هنا كان يلزم بعض الإيضاح والإفصاح لنعرف هل يعني طيب العلاقة بين رئيس الوزراء ونائبه رضاء الأول عن أفعال الأخير، أم أنه يعني استقرار الجانب الإنساني من العلاقة فحسب. رابعاً: رأي الكثيرون أن تأكيد متانة العلاقة ودفئها بين رئيس الوزراء ونائبه يضر الدكتور شرف كثيراً لأنه يبدو إعلاناً للرأي العام عن أن الدكتور يحيي الجمل ينفذ بأفعاله التي هي مثار لتساؤل الرأي العام سياسة الحكومة أو توجيهات رئيس الوزراء.. فهل من المعقول أن تكون تصرفات الدكتور الجمل انعكاساً لتوجيهات الدكتور شرف؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يأتي الدكتور عصام شرف مثل تلك المظاهر في قضايا أخري بعيدة عن الدكتور يحيي الجمل، ولماذا لا يرتكب أعضاء الحكومة أعمالاً شبيهة يمكن نسبتها إلي توجيهات رئيس الوزراء كذلك، أم أن رئيس الوزراء يبدو للمواطنين جميعاً ولأعضاء مجلس الوزراء علي نحو بعينه، ثم يتجلي للدكتور يحيي الجمل وحده علي نحو آخر؟!! خامساً: من ضمن سمات »الجمليزم« فيما يبدو تحدي إرادة الناس، فإذا أعلن الجمهور غضبه ورغبته في عزل الدكتور يحيي الجمل من منصبه طلع علينا الرجل ليؤكد أنه باق. وهنا بيقين نحتاج إلي تذكير الدكتور يحيي بأن إحدي أكبر آفات النظام السابق عدم إدراكه في اللحظة المناسبة أن الناس يرفضونه، وهو ما ينبغي أن يصير أمثولة، وما يجب أن يصبح عبرة لمن يعتبر، فلا يقع فرد مثل الدكتور يحيي فيما وقع فيه ذلك النظام، إلا أن التفسير الأقرب هنا هو تلك العلاقة الوطيدة التي ربطت الأستاذ الجمل بالنظام السابق بما جعله يبدو امتداداً لمزاج ذلك النظام وسلوكه علي نحو مطلق. سادساً: لماذا يبدو موضوع الدكتور يحيي الجمل وكأنه مونولوج »حديث الذات« يتكلم فيه الرجل مع نفسه وإلي نفسه.. لماذا يبدو كلامه من طرف واحد؟ لماذا لا يتحدث الدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء فيقول لنا إنه لا نية لإقالة الدكتور الجمل، وأن علاقته به طيبة، أو أنه ينتوي الإطاحة بالرجل، ويمتلئ اعتراضاً علي تصرفاته؟ لماذا يُترك ليحيي الجمل تقييم وتكييف شكل علاقته بالدكتور عصام شرف، ويتحدث بالنيابة عنه في أمر تلك العلاقة؟ ولماذا ينفي الدكتور الجمل استقالته »التي لم يذكرها أحد« هل لأنه يريد إحراج رئيس الوزراء فلا يقيله انصياعاً لأوامر الشعب ومطالباته؟ ...........؟ هذه أسئلة كثيرة تتناسل وتتكاثر حولنا مثل فطر الماشروم، وجميعها بلا إجابة في الذهن العام الذي باتت ظاهرة »الجمليزم« واحدة من أكثر ما يحيره .