لم استغرب - كثيرا- أن يكون عزل الدكتور يحيي الجمل نائب رئيس الوزراء هو أحد المطالب الأكثر إلحاحاً عند ثوار التحرير يوم الجمعة الفائت.. إذ أن الرجل تحمل مالا يطيق، وحملنا مالا نطيق حين قبل القيام بمهمته الحكومية الحالية التي جاءت في ظرف شديد الحرج والحساسية. وعلي الرغم من أننا نعرف قدر الدكتور الجمل العلمي والمهني، فإننا لا نستطيع أن نجامله أو نأخذ بخاطره، ونقول أنه كان أهلا للوظيفة التي أقبل عليها بنحو لا يقدر أعباءها حق التقدير، أو يدرك ثقل تبعاتها كل الإدراك. وأشعر بكثير أسي وأنا اسطر هذا النص الآن، مضطرا إلي الإقرار بكامل اخفاق الدكتور يحيي الجمل في وظيفته، وعجزه عن الوفاء بمقتضياتها، فالدكتور يحيي شرفني باقتراب فيه محبة وصداقة علي امتداد ربع القرن الماضي، وتكررت الصيغ المهنية الحوارية التي جمعتني وإياه »صحافة وتليفزيون« في وثائق لا تنسي، وكان الرجل مرجعيتي القانونية والدستورية الأقرب حتي أسابيع مضت حين أعدت طرح صيغته الشهيرة لمعالجة المادة 67، وذلك قبيل تعديلات المستشار طارق البشري التي تم استفتاء الشعب عليها.. ولكن الصداقة والمحبة شئ، والمحاسبة السياسية ومصالح الوطن العليا شئ آخر تماماً. إذ راقبت - بكثير دهشة وإنزعاج- تكليف الدكتور يحيي الجمل بمهمة تلو أخري في إطار التشكيلة الوزارية الحالية، ثم فشله المدوي في تحقيق أهداف التكليف، وبلوغ غاياته.. وترتب علي تلك الحقيقة مالاحظناه من آليه اسناد الملفات إلي الرجل ثم سحبها منه - بغتة- وتكليف آخرين بها. وبدأ المشهد المحزن والخطير بمنحه ملف الصحافة والإعلام، وإجراء التغييرات الواجبة في قيادات مؤسسات الدولة الاعلامية لتوائم ملابسات وظروف ما بعد ثورة 52 يناير، فإذا بالرجل يستعرض أمام الرأي العام عدم معرفته المطلق بمفردات الحالة الصحفية والاعلامية المصرية، أو بالمزاج السائد في المؤسسات، ويتحول الأمر علي يديه إلي مهزلة حقيقية يطرح فيها اسماء، ويشيع تسريبات أدت إلي الإخلال بأمن واستقرار المؤسسات الصحفية، ثم يضع من المعايير والطرق في الاختيار ما يبدو مضحكا وعجيبا، ويرافق ذلك كله بتصريحات متواصلة علي شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد، يبدو فيها - أحيانا- متظاهرا بالضجر والتأفف من الصحفيين الذين يطاردونه للحصول علي منصب، كما بدا- أحيانا أيضا- فضائحيا يفشي ما لا يجب إفشاءه من اتصالات بالمرشحين، أو مبتكرا مخترعالاشكال من الاختيار قامت بها سكرتيرته- أحيانا- في بعض المؤسسات، فضلا عن تطوعها بالتصريح إلي المتنافسين عن اتجاهات القرار عند رئيسها، وأن الكفة تأكد ميلها لصالح أحدهم، فيما شارفت التطفيف لصالح آخر. واستمرت فصول الملهاة تتري علي مسرح السياسة والاعلام في مصر، مصاحبة استشارة الناس الغلط في الموضوع الغلط، واللت والعجن المتواصلين في في الأمر حتي كاد الأداء التنفيذي في ذلك الموضوع بالذات أن يصبح عنصرا حاكما في تقييم الناس السلبي لعمل الحكومة كلها.. ومن هنا فقد تداركت الإدارة العسكرية، أو الادارة المدنية أو كلاهما الأمر وسارعتا باستنقاذ الملف من بين براثن الدكتور يحيي الجمل، وإسناده لآخرين بينهم الدكتور عمرو عزت سلامة وزير التعليم العالي. ولكي لا يزعل الدكتور يحيي الجمل، ولا أعرف - حقيقة- شيئا عن أهمية زعله في هذا السياق بالتحديد، فقد تم اسناد ملف: »الحوار الوطني« إليه ليدير ما يمكن وصفه بالنقاش العام حول مستقبل البلاد في هذه المرحلة التاريخية التي نمر بها، فإذا بذلك الحوار يستحيل مسخرة عظمي سواء من حيث طريقة اختيار فرقاء الرأي المشاركين فيه، أو من حيث تحديده لأجندة الحوار وأهدافه، أو من حيث انهاء جلساته باعلان الدكتور يحيي عن ذهابه إلي بيت الأدب!!! ولقد أفاضت أقلام محترمة كثيرة في الاشارة إلي الطريقة المصطباوية التي أدار بها الدكتور يحيي عملية الحوار، حتي فشلت- هي الأخري- علي نحو مدو، وفي زمن قياسي، وتم تكليف الأستاذ الدكتور عبدالعزيز حجازي بالقيام بها.. ورأينا كيف حشد الدكتور يحيي أصدقاءه، ومعارفه، وأحباءه ليكونوا جسم ذلك الحوار، بصرف النظر عن تمثيلهم الأطياف السياسية والفكرية الحاضرة في المشهد الراهن، ولدهشتي - كذلك- باستبعاده شباب الثورة، أو الشباب عموما من الاشتراك وعلي نحو انتقائي عجيب، فيما نحن نعيش الآن زمنا اخترعه أولئك الشباب، ودفعوا فواتيره من دمائهم وتضحياتهم. وقد تجلي إخلاص الدكتور يحيي لاصدقائه ومعارفه غير مرة، منذ قبضه علي مقعد نائب رئيس الوزراء.. إذ لم يعد يخفي علي أي نصف متابع ذلك النسيج غير المتجانس أو المفهوم لمن دعاهم الرجل أو رشحهم إلي اجتماعات ولقاءات مع المجلس العسكري أو مجلس الوزراء، وبدا الأمر وكأنه صيغ يقررها - انتقائيا- وفاء لمعاني الصداقة والمحبة، لا بل وأحيانا انحناء أمام إعزاز لمن يقومون بتشغيله أو استكتابه في صحيفة سيارة، أو دعوي قانونية مثارة. لقد كنا نعيب علي اقطاب النظام البائد الحكوميين »تعارض المصالح« بين عملهم الحكومي، وبيزنس أعمالهم الخاصة، فإذا بالدكتور يحيي الجمل يكرر نفس الصيغة وعلي نحو أكثر فجاجة، لابل ويجاهر به حين نادي أحد من يشغلونه- في اجتماع عام- بأنه: »رئيسه«!! ولم يكتف الشيخ - الذي جاوز الثمانين- بذلك، وإنما عمد إلي نثر وتوزيع أقوال مرسلة تستبعد خصومه أو من لم يثيروا اعجابه أو يحظوا باعترافه تحت عنوان أنهم من »المرتبطين بالنظام السابق« فيما الدكتور يحيي الجمل نفسه واحدا من أبرز نجوم ورموز النظام السابق، ولعلي لا أمل الاشارة إلي حوار صحفي جمعني وإياه في مجلة »الأهرام الاقتصادي« منذ أعوام وضمنته كتابي: »اليمين واليسار« وفيه أفاض الدكتور يحيي الجمل وأبدع في الحديث عن الرئيس السابق ومدحه مديحا لا اظن انه حظي به علي طرف لسان أو سن قلم! ومع ذلك فقد تغاضينا عن ذلك باعتبار أن المحك الذي نعترف به هو الموقف من الثورة حين قامت، وليس العلاقة بالنظام السابق طالما خلت من الفساد أو المشروع الكارثي للتوريث. إذن أشاع الدكتور يحيي الجمل قدرا من الجلبة والفوضي والمسخرة في الساحة، عبر اضطلاعه بملف الحوار الوطني- كما فعل في ملف الصحافة والاعلام- وحتي تم سحب التكليف منه بصنعة لطافة، و إسناد المهمة للرجل الفاضل د. عبدالعزيز حجازي. وكنا نتصور أن الأمر سيقتصر علي التكليفين والإخفاقين والإقالتين، ولكن يبدو أن هناك من يعتبر د. يحيي الجمل »فرض عين« وليس »فرض كفاية« وانه ينبغي ان يظل قابعا في وظيفة نائب رئيس الوزراء كمأثرة - في ذاتها- تجاوز كل المآثر.. ومن ثم طلع الدكتور يحيي الجمل علينا معلنا عن التكليف الجديد الذي أمسك بتلابيبه وبتلابيبنا معه، وأعني إدارة ما يسمي: »الوفاق الوطني«، للاعداد لوضع دستور جديد للبلاد.. وهنا- في الحقيقة- ينبغي لنا أن نتوقف متسائلين - بكل أدب- عن أسباب ذلك الإصرار الكاسح علي تكليف الدكتور يحيي الجمل بتلك المهام المتعاقبة رغم فشله المتعاقب فيها. الوزراء تغيروا أكثر من مرة، ورئيس الوزراء تغير فلماذا صار عصيا علينا تغيير د. يحيي الجمل، الذي صار أيقونة استمرار تصدق عليها مقولة الشاعر نزار قباني: »باقون علي صدوركم كالنقش في الرخام«... والمذهل أنه قبل إقرار الترشيح الصائب والعادل لاسم الدكتور مصطفي الفقي لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، أن تم تسويق وإشاعة اسم الدكتور يحيي الجمل كمرشح محتمل للمنصب. يا سلام.. ألم تنجب مصر سوي الدكتور يحيي الجمل ليصبح مرشحها الأوحد والمزمن لكل هاتيك الوظائف وتلك المواقع؟.. الموضوع فيه سر، ونحن نري أن حجم الأسرار زاد في حياتنا عما يمكن تصوره أو احتماله.. ومن المدهش ان ترفع الادارة المدنية شعارات الشفافية والانكشاف والانفتاح علي الشارع ثم تخفي عنا سر الدكتور يحيي الجمل وإسناد المهام إليه متتابعة في زمن وجيز جدا وفشله فيهم بجدارة سواء في ملفي الصحافة والحوار الوطني، ثم اسناد المهمة الثالثة »الوفاق الوطني لوضع الدستور«، لا بل وكاد الرجل ان يترشح للرابعة »أمانة جامعة الدول العربية« لولا ستر من الله عظيم. الشعب يريد معرفة السر.. لماذا الأستاذ الجمل بالذات؟.. ولماذا يستمر حين يفشل؟.. ولماذا يبقي حين يطالب ثوار التحرير باطاحته، ولماذا يتم تجاهل تاريخه الحافل مع النظام السابق الذي تقلب فيه علي أرض براح من الارتباطات ومصالح متعددة كادت أن تصل به إلي مقعد رئيس مجلس الشعب؟ لكل شئ حدود وتلك الإشكالية التي اصبحت علامة في آداء الادارة المدنية يجب وضع نهاية لها، فالثورة لم تقم ولم نؤيدها لكي نصل إلي هذا الوضع التعيس الذي تتم فيه الاختيارات وفقا للتفضيلات الشخصية وليس الاعتبارات الموضوعية.