أكثر ما أزعجني في مصر مؤخراً أن تطل الفتنة الطائفية بوجهها القبيح مرة أخري في وقت كنا نتصور أن من مزايا 25 يناير هذا التلاحم بين المصريين المسلمين والمسيحيين. والهتاف الذي كان يتردد في ميدان التحرير: مسلم مسيحي إيد واحد. بل إن صورة المسلم الذي يصلي في حراسة المسيحي. أو المسيحية التي تحضر المياه لمسلم لكي يتوضأ في قلب ميدان التحرير. ما زالت ماثلة في الأذهان. أكثر من هذا أنه خلال أيام الثورة ال 18 لم يقع أي حادث طائفي. رغم ما سمي بالغياب الأمني. والانفلات البلطجي. إلا أن المسألة الطائفية ظلت منسية في أحسن الأحوال المصرية. أو مؤجلة في أسوأها لا قدر الله ولا كان. وهذه العودة تؤكد لنا من جديد أن المعني المصري القديم الذي كنا نردده في أزمنة سابقاً ما زال صالحاً لكي يقال حتي في الزمن الجديد. أي أنه من ثوابت الشخصية المصرية التي تعلن عن نفسها حتي في مواجهة أعتي المتغيرات. إن مصر عندما تكون قوية. يتراجع أي حس طائفي مهما كانت بواعثه. ولكن عندما تصيبها العلة فإن الحس الطائفي أو الالتباس الطائفي يعلن عن نفسه بسبب وبدونه. وتظهر الفتن والأوجاع. وأكبر دليل أمامنا ما جري في ثورة الشعب المصري في مطلع القرن العشرين. والتي سميت بثورة 1919. رغم أنها جاءت في أعقاب حوادث طائفية كبيرة. بل كانت هناك حساسية دائمة ومستمرة من أن المحتل الأجنبي كان مسيحياً وكان هناك نوع من التلميح اليومي من أن هذا المصري أو ذاك. ليس له موقف محدد ضد المحتل. وما زلنا نذكر اللقاء الذي يمكن وصفه بالتاريخي الذي وقع في النصف الأول من القرن العشرين بين اللورد كرومر ومكرم عبيد عندما قال كرومر لعبيد إننا نسعي الآن لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. لماذا لا تفكرون أنتم في أن نساعدكم علي إنشاء جزء لكم في مصر؟ قال له يا جناب اللورد: أنا مسلم وطناً ومسيحي ديناً. ثم دعا الله دعوته الشهيرة: اللهم اجعلنا كنصاري لكل الوطن سليماً موحداً. واجعلنا كمسلمين للوطن أنصاراً. إن العبارة الأولي التي قالها مكرم عبيد حكاية المسيحي الذي يعتبر نفسه مسلما وطناً ومسيحيا ديناً ما زالت صالحة لكي نعتبرها عنواناً لكثير مما يجري في مصر بين المسيحيين والمسلمين. سأقاوم الآن الفرق في تفاصيل حكاية ما جري في كنيسة قرية صول مركز أطفيح بحلوان. لكني أحب أن أتوقف أمام الشائعات التي أشعلت الموقف. والشائعة تفرخ وتبيض في الحياة اليومية عندما تغيب الشفافية وتنسي الدولة - التي هي أكبر وأبقي من الحكومة - دورها في مخاطبة الناس وإعلامهم بكل ما يجري أولاً بأول. قيل مثلاً إن هناك قتيلين من المسلمين قتلهما مسيحيون. والحقيقة أن القتيلين الاثنين كانا من المسلمين. ولكن من قتلوهما كانوا أقاربهما من المسلمين. لأن الأمر بدأ بعتاب لوالد الفتاة سبب المشكلة. لماذا كان هيناً ليناً في موقفه من الشاب المسيحي الذي أحب ابنته. وتطور العتاب إلي معركة وسقط قتيلان. الحادث الثاني رغم أنه خناقة عادية علي مرور ميكروباص قبل آخر تصادف أن السائقين واحد مسلم والثاني مسيحي. إلا أن الأمور تطورت ووصلت لمعركة سقط فيها 14 قتيلاً و120 جريحاً وحرقت بعض البيوت والسيارات في منطقة تعد من أحزمة البؤس التي تحيط بالقاهرة من كل جانب. اشتعل الموقف بعد أن قيل خطأً أن هناك مسجداً تم إحراقه. ودون تحديد لمن أحرقوا المسجد تتجه الرؤي والظنون والخيالات المريضة لأنهم ما دام مسجدا فلا بد أن من أحرقوه من المسيحيين. مع أن القصة كلها لا أساس لها لا من الصحة ولا حتي من الخيال الإنساني. ورغم سقوط عصر ونهاية مرحلة ووجود زمن جديد. كان يجب علي القائمين عليه المسارعة بإغلاق الملفات القديمة. ومحاولة فتح صفحة جديدة. إلا أن هذا لم يحدث. لقد وقعت منذ الخامس والعشرين من يناير وحتي الآن أكبر عدد من التعديلات الوزارية. ولدينا الآن ثقافة الاستقالات التي كانت غائبة من قبل. كل لحظة نفاجأ بمسئول يستقيل أو يهدد بالاستقالة. وكل واحد لديه أسبابه الخاصة. لكن هذا يؤسس ثقافة جديدة في المجتمع المصري يمكن أن نسميها: ثقافة الاستقالة. والاستقالات كانت فرصة نادرة للدخول إلي رواق الحلول التي لم يكن أحد يجرؤ علي الاقتراب منها. ألا وهو زيادة عدد الوزراء من المسيحيين. والمحافظين من المسيحيين. والسفراء والمديرين والضباط من المسيحيين دون طنطنة ومن غير إعلان ومن غير من أو سلوي. إلا أن هذا لم يحدث. أعرف دقة اللحظة والحسابات المتداخلة التي تحكم صناعة القرار. لكني دهشت عندما كان الدكتور يحيي الجمل يقول لريهام السهلي في برنامج 90 دقيقة: هل يعقل ألا يوجد لدينا رئيس جامعة مسيحي؟ والمشكلة أن الجمل يستعير لسانه القديم. وعباراته عندما كان يقف في صفوف المعارضة. ويرددها سعيداً بها. مع أن ترديدها خطأ. لأنه الآن في سُدة الحكم. وله باع نعرف أنه ضخم وطويل في كثير من القرارات التي تصدر. في روايتي: "قسمة الغرماء". وهي واحدة من أعمالي التي تدور حول العلاقة المتينة بين المسلمين والمسيحيين في مصر. وهي رواية منشورة في لندن وبيروت. ولم تنشر في مصر بعد. أتحدث عن الخسارة التي يمكن أن تعم مصر. لو أننا خسرنا هذه العلاقة. إن قسمة الغرماء هي ما يقوم به الشركاء بعد الخسارة الفادحة. أنهم يقسمون الخسارة وليس المكسب. وقد أوحي لي بالعنوان الصديق إبراهيم عيسي في أحد مقالاته أو عباراته الحوارية واستأذنته أن يكون عنواناً للرواية. والرواية تقول عبر شكل فني وجمالي إن الخسارة مؤكدة وستصيب الجميع المسلم قبل المسيحي والمسيحي قبل المسلم. وهي العبارة التي أذكر نفسي بها كلما أطل علي مصر وجه الطائفية البغيض. ارفع رأسك فوق أنت قبطي. أزعجني هذا الهتاف كثيراً. لأننا كنا نقول - دائماً وأبداً - ارفع رأسك فوق انت مصري. لكن رغم هذا الهتاف الذي تردد أمام ماسبيرو من جماهير غاضبة سمعت هاني لبيب وهو مفكر مصري - لا أحب أن أصفه بالمسيحية - يقول إنه ليس مصراً علي بناء كنيسة صول في نفس مكانها. لأن حراستها من الآن وإلي الأبد قد تكون مستحيلة. المهم مواجهة التراكمات التي أدت لما جري. هكذا وجدت صوتاً عاقلاً وسط الهتافات.