«يمكن للانسان ان يتجاوز غيره، لكن أصعب التجاوز ماكان محاولة فوات الذات إلي المختلف. المغاير..» جئت إلي العالم في التاسع من مايو عام ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين، نفس اليوم الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية، كان ذلك في قرية جهينة جنوب مصر، والتي ماتزال بنخيلها ودروبها وقنوات المياه فيها تشكل الركن الركين من ذاكرتي، والمرجعية الأساسية لإحساسي بالمكان، غير أن الصورة الأولي العالقة بذاكرتي، تنتمي إلي القاهرة القديمة حيث كانت الاسرة تعيش في احدي حواري قصر الشوق، قلب القاهرة الفاطمية، ما بين الصعيد والقاهرة جري تكويني وكانت نشأتي. كان والدي موظفا صغيرا، عرف ظروفا شاقة في حياته، وقد دونتها بعد رحيله المفاجئ في أطول عمل روائي كتبته «كتاب التجليات»، قرر الوالد أن يجنبني مع اشقائي ما عاناه هو،أن يعلمنا، كان يري أن الثروة هي العلم لمن ليس لديهم ثروة مادية، وكان العلم في مصر وقتئذ هو القيمة الأولي في المجتمع، كان والدي لديه القدرة علي الحكي الشفهي، ولو أتيحت له فرصة كاملة للتعليم ربما اصبح روائيا، كان يحفظ تراثاً شفهيا هائلا من الأمثال والحكايات والوقائع. وكان لدي أمي القدرة علي الاصغاء لحكايات وهمية شتي كنت أقصها عليها في طفولتي المبكرة، حكايات شفهية، خيالية، تنطلق من الحكايات المروية في الحارة عن عوالم موازية، ومن خلال الغموض الذي ينبعث من قصر المسافرخانة المملوكي. القاهرة القديمة كثيفة بالزمن، فترات متعاقبة ترك كل منها أثرا، نقشا، أينما نوجه البصر لابد أن يري مئذنة، قبة، مدخلا منمنماً، كنا نسكن الطابق الاخير ومنه أطالع الأفق القاهري، الأهرام في الغرب، كنائس الفسطاط في الجنوب، المآذن تتوالي عبر الأفق، لاتشبه مئذنة الأخري، الأزمنة تتجاور ولاتتوالي، العمارةذاكرة لذلك كان اهتمامي بها فيما بعد. المركز العلمي للقاهرة، لمصر، للعالم الاسلامي الأزهر، الأزهرجامعة وليس جامعا للصلاة، تجاوز حضوره الآن الألف عام بعقود أربعة. المركز الروحي لمصر هو ضريح سيدنا مولانا الامام الحسين الذي حل مكان المسيح عليه السلام وأوزير سيد العالم الآخر في العقيدة المصرية القديمة، والثلاثة ضحي كل منهم بنفسه وحياته من اجل البشرية، ربما كان اهتمامي بسيدنا الحسين منطلقا إلي اهتمامي بمصر القديمة، بدون استيعاب مضمونها الروحي لا يمكن فهم المرحلة القبطية ثم الإسلامية، من هنا فكرتي حول الثبات والتغير في مضمون مصر الثقافي، القاهرة القديمة عامرة بالمكتبات بفضل وجود الازهر، مكتبات كانت تطبع بالعربية والكردية والتركية والأمهرية والمالوية، كانت كتب الفقه والادب تطبع بهذه اللغات وترسل إلي تلك البلدان. البؤساء ميدان الحسين عندما توقفت أمام فكري الذي يبيع الصحف والكتب، بما منحه الوالدلي من هدية العيد اشتريتا رواية «البؤساء» لفكتور هوجو، أول رواية اقرأها، كان عمري سبع سنوات، ومع سطورها الأولي فتح لي باب القيم، المؤدي إلي عوالم شتي وشخصيات لم ألتق بها، كنت أقرأ كل ما أجده في المكتبات القديمة المحيطة بالازهر، الروايات المترجمة والأدب العربي القديم، تلك سنوات العصر الذهبي للقراءة، لم اكن أقرأ إنماأعايش، بعد التهامي لأحدب نوتردام مشيت عدة ايام محدودبا حزنا عليه، ومن الف ليلة استوحيت مخطط المدينة الوهمية مدينة النحاس وقررت الوصول اليها. خلال قراءتي التلقائية كنت أمنهج اطلاعي. حكايات السندباد قادتني إلي أدب الرحلات والدراسات الكبري مثل الأدب الجغرافي العربي لكراتشكوفسكي الروسي، واندريه ميكائيل الفرنسي، روايات اسكندر دوما عن الثورة الفرنسية قادتني إلي قراءة مصادر تاريخ اوروبا، قرأت ماكتبه تولستوي وتشيخوف ودستويفسكي الذي تربطني به علاقة خاصة، قرأت جوركي، شولوخوف، وتوماس مان، وتعلقت باتيالو كالفينو ودينو بوتساتي، دانتي وهمنجواي وارسكين كالدويل وفولكنر ووايتمان وجيمس جويس بالطبع سرفانتسر وهرمان ميلفيل الذين اعتبر نتاجاتهم العظمي بمنزلة الكتب المقدسة، قرأت حافظ وسعدي والرومي وكونفشيوس ومزدك وبوذا وغيرهم. اما عن الاسئلة الكبري التي تؤرقني منذ طفولتي اتجهت إلي الفلسفة إلي علم النفس، إلي علم الكون، عندما كنت طفلا كنت اسأل نفسي «امبارح راح فين» أين ذهب الأمس؟، هل لومشيت مسافة معينة في المكان يصل إلي نقطة معينة في الزمان؟، هذا السؤال ظل معي حتي الآن، تعقد وتفرع، بالطبع لن اجد الاجابة، اعرف أنني سأرحل بدون أن أعرف، لكنني لن أكف عن صياغة الاسئلة وطرح الاستفسارات لعل وعسي. الشعر الأزهر،حفظت الشعر العربي القديم، اعظم تراث انساني طرح سؤال الزمن من خلال المطلع الشهير، الوقوف علي الاطلال، تعلقت بالجاحظ، والمتنبي وأبي نواس وابي العلاء وصاحبت أباحيان التوحيدي، لم أكتف بقراءتهم، بل التعريف بهم والدعوة إلي عقد المؤتمرات الخاصة بدراستهم، وتوفير أعمالهم من خلال سلسلة الذخائر الشعبية التي اسستها في التسعينات، تعلقت وتأثرت واحببت سيدي ومولاي الشيخ محيي الدين بن عرب المتصوف الأكبر، كذلك الشيخ محمد احمد بن اياس الحنفي المصري والذي قدر له ان يعايش حدثا مهولا، هزيمة مصرأمام العثمانيين في عام 1517 وهذا حدث رهيب له نفس تأثير الحدث الأفظع الذي عشته عام سبعة وستين من القرن الماضي، عندما هزم الجيش المصري في سيناء امام الجيش الاسرائيلي وهذا حدث نعيش توابعه حتي الآن، ولأنني من جيل يعتبر القضايا العامة بمنزلة القضايا الخاصة، فقد أدت معاناتي إلي العمل كمراسل حربي لمدة ست سنوات حتي حرب اكتوبر، عام ثلاثة وسبعين والتي تجاوز فيها الجيش المصري هزيمة يونيو عام سبعة وستين. الخصوصية لم يكن هناك أي تناقض داخلي بين معايشة التوحيدي ودستويفسكي وأبي العلاء والمتنبي والراوي المجهول لألف ليلة وليلة، وصولا إلي الأديب العرب الاكبر الذي شاء حظي الجيد ان اتعرف عليه واصاحبه حتي رحيله عن العالم، أن اقتدي به وأتأثر به، وعندما رحل عام الفين وستة كنت أقدم صحبه الأحباء الذين يسعون في الحياة الدنيا- اعني نجيب محفوظ طبعا، منذ البداية، كان همي تحقيق مبدأ بسيط نشأ معي، أن أكتب ما لم أقرأ مثله، في رأيي أن كل مبدع لايأتي بجديد إلي التراث الانساني كله وليس إلي تراث ثقافته فقط، يكون ناسخا وليس مبدعا، كنت مهموما بتحقيق خصوصيتي الابداعية، ليس من اجل الشكل فقط، ولكن من اجل ايجاد مساحة تمكنني من التعبير عما أريد ان اقوله. لماذا عندما نري لوحة صينية نقول هذا فن «صيني»؟ لماذا عندما نقرأ قصيدة هايكو نقول هذا فن «ياباني»؟ لماذا عندما نسمع آلة السيتار نقول هذا عزف «إيراني»؟ هدفي أن يقرأ نصي فيقول القراء، هذا سرد «عربي» لا، بل اقول ما هو اكثر، هذا سرد «غيطاني». إذن كيف تتحقق هذه الخصوصية؟ حاولت استيعاب مصادر الأدب العربي القديم المهجورة، حاولت اخضاع اساليب السرد الحديثة إلي التقاليد البلاغية القديمة، مكتوبة وشفاهية، بعد استيعاب هذا تجاوزته عبر الكتابة، هكذا جاءت الزيني بركات ثم وقائع حارة الزعفراني ثم التجليات وصولا إلي دفاتر التدوين الذي فاز الجزء السادس منه بالجائزة «الرن». صدر من المشروع سبعة دفاتر أعيد نشرها هذا الاسبوع في مجلدين من خلال الهئية العامة للكتاب وتم تقديمهما في حفل كبير دعا إليه د. احمد مجاهد بحضور عدد كبير من المثقفين وايضا وزير الثقافة. كانت دراستي لفن تصميم السجاد وصياغة الألوان من مصادر تحقيق الخصوصية. السجاد ذاكرة، ونقوشه ليست بلا معان، انما تدل علي تفاسير ومفاهيم، اهتممت بالعمارة، فرعونية وقبطية واسلامية لأن العمارة تركيب «والرواية بناء» اوليت الموسيقي اهتماما رئيسيا لأنها ايقاع، والرواية ايقاع، كل هذه العناصر لتحقيق ما اتطلع اليه من خصوصية، اما همي الموضوعي فهو التعبير عن قضايا الوجود، وتحقيق الحد الأدني من الظروف الانسانية التي تحقق القدر المعقول من العدالة في الحياة الدنيا وليس في الوجود المتوهم، الحياة الانسانية قصيرة جدا، وأبشع ما يعانيه الانسان الظلم الاجتماعي الذي يحد من قدراته ونبوغه، من هنا كان اعتناقي للفكر الاشتراكي منذ الصبي وخوض معاناة المعتقل، حتي الآن لم تتبدل قناعاتي وان بدا لي قبول اساليب مختلفة لتحقيق العدالة. لا اكتب من اجل مقاومة الظلم والتمييزبجميع اشكاله، إنماأتصور أن الكتابة هي الجهد الانساني الوحيد الذي يبذل لمقاومة العدم، ذلك الطي الذي لاراد له ولاقدرة لنا بمقاومته، ذلك الزمن الذي يدفع بنا إلي النسيان، إلي الظلال، الكتابة فعل انساني نبيل. ان الحياة ماضية إلي طي حميم، ولا يتبقي منها الا الحكي، لذلك أحاول أن أرويها لقد حاولت دائما أن اتجاوز كل الاشكال الفنية المسبقة، حاولت أن يولد الشكل من الموضوع، من داخلي، مررت بمحاط عديدة منها الزيني بركات وكتاب التجليات وكانت رواية «شطح المدينة» علامة هامة في اتجاه تجاوز التجاوز، خطوة أوسع تحققت في «دفاتر التدوين» غير أن تجاوز التجاوز تحقق في «الحكايات الهائمة» التي صدرت مؤخرا عن دار نهضة مصر وفي «حكايات قاهرية» التي ستنشر بدءا من السبت القادم في جريدة «أخبار اليوم»، لقد تحقق تجاوزي للتجاوز واصعب مراحل التجاوز فوات الذات إلي جديد غير مألوف، هذا ما تحقق في مشروعي الروائي الممتد «الحكايات».