عباس شراقي يكشف أسباب الزلازل المتكررة في إثيوبيا    غداً.. انطلاق الأسبوع التوظيفي ل جامعة عين شمس    وزارة البترول تكشف أسباب زيادة أسعار البنزين والسولار    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 19 أكتوبر 2024    حكومة نتنياهو ستصوت على مقترح يتعلق بتوزيع شركات أمريكية الطعام بشمال غزة    "حزب الله" يستهدف قاعدة "فيلون" الإسرائيلية بصلية صاروخية    بيونج يانج : عثرنا على حطام مُسيرة عسكرية كورية جنوبية    مائل للحرارة والعظمى على القاهرة 29.. حالة الطقس اليوم    اليوم.. محاكمة إسلام بحيري لاتهامه بصرف شيك دون رصيد    مشهد صادم للجمهور.. اختراق هاتف إعلامي مصري على الهواء مباشرة (تفاصيل)    تكريم الفنانة بدرية طلبة خلال حفل افتتاح مهرجان المسرح العربي    الشيخ أحمد كريمة يوجه رسالة لمطرب المهرجانات عمر كمال    حرق الدهون: 10 مشروبات تساعد على إنقاص الوزن سريعًا    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف سالي فؤاد.. طريقة عمل سلطة الفاصوليا الخضراء    موعد مباراة نادي قطر أمام الوكرة في الدوري القطري والقنوات الناقلة    أسعار الذهب في مصر تقفز لأعلى مستوى منذ فبراير    أسعار الحديد اليوم السبت 19 أكتوبر 2024 في مصر.. طن «عز» يسجل 42 ألف جنيه    6 سنوات عمل سياسي| «التنسيقية».. استراتيجية جديدة للانتشار والتفاعل وزيادة الكوادر    في أول مشروع لمراكز الادخار المحلية.. نجحت «ميت غمر» وفشلت روسيا وأمريكا!    تفاصيل مقترح قانون جديد لمكافحة المراهنات    إجازة 10 أيام.. مواعيد العطلات الرسمية في شهر نوفمبر 2024 للموظفين والبنوك والمدارس    المخرج عمرو سلامة لمتسابقة «كاستنج»: مبسوط بكِ    رئيس شعبة البيض: البيع بالمزرعة يتم حسب الوزن.. ونطالب بوضع معادلة سعرية    ما هو مكر الله؟.. الإفتاء تحذر من وصفه تعالى به وتوضح 7 حقائق    ترامب يعلق على اغتيال السنوار.. ماذا قال عن «بيبي»؟    ملف يلا كورة.. الأهلي إلى نهائي إفريقيا لليد.. استعدادات أندية السوبر.. ومجموعة قوية لسيدات مسار    تجمع «بريكس» يدعم إنشاء تحالف للطاقة النووية    موعد فولهام ضد أستون فيلا في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    دونالد ترامب: موت السنوار يجعل آفاق السلام أسهل في غزة    الاستعلام عن صحة شخص سقط من قطار بالبدرشين    شباب السوالم يفوز على الرجاء بهدفين في الدوري المغربي    التقديم في سند محمد بن سلمان بالسعودية 1446    «مينفعش الكلام اللي قولته».. إبراهيم سعيد يهاجم خالد الغندور بسبب إمام عاشور    بسبب الأجرة.. ضبط سائق تاكسي استولى على هاتف سيدة في القاهرة (تفاصيل)    أحمد سليمان: طريق الأهلي أفضل.. ولكننا نحب التحديات    بلومبيرج: توقعات بارتفاع ناتج حصاد الكاكاو في كوت ديفوار بنسبة 10%    بعد إرتفاع سعر أنبوبة البوتاجاز.. حيل لتوفر50% من استهلاك الغاز في مطبخك    وزير الخارجية التركي يعزي حركة حماس في استشهاد السنوار    دورتموند يعود لطريق الانتصارات بفوز على سانت باولي في الدوري    كيف تطور عمر مرموش مع آينتراخت فرانكفورت؟.. المدير الرياضي للنادي الألماني يوضح    تامر عاشور ومدحت صالح.. تفاصيل الليلة الثامنة من فعاليات مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية    الصور الأولى من حفل خطوبة منة عدلي القيعي    منتج عمر أفندى يكشف حقيقة وجود جزء ثان من المسلسل    برج القوس حظك اليوم السبت 19 أكتوبر 2024.. حافظ على صحتك    عودة قوية ل آسر ياسين في السينما بعد شماريخ    عمرو أديب عن واقعة الكلب على قمة الهرم: نازل كإنه بيتحرك في حقل برسيم    وزير الخارجية اللبناني: استمرار إسرائيل في سياسة المجارز سيؤدي إلى مزيد من التطرف    ليلة لا تُنسى.. ياسين التهامي يقدم وصلة إنشادية مبهرة في مولد السيد البدوي -فيديو وصور    أفضل 7 أدعية قبل النوم.. تغفر ذنوبك وتحميك من كل شر    إسكان النواب تكشف موعد إصدار قانون البناء الموحد الجديد    ستاندرد آند بورز تعلن أسباب الإبقاء على نظرة مستقبلية إيجابية لمصر    اللواء نصر موسى يحكي تفاصيل ساعة الصفر في حرب أكتوبر    موسكو: خسائر القوات الأوكرانية على محور كورسك تبلغ 505 عسكريين خلال 24 ساعة    رهاب الطيران..6 طرق للتغلب عليها    أشرف عبد الغني: الرؤية العبقرية للرئيس السيسي حاضرة وقوية وتدرك المتغيرات    تطابق ال«DNA» لجثة مجهول مع شقيقه بعد 30 يومًا من العثور عليها بالتبين    ماذا نصنع إذا عميت أبصاركم؟.. خطيب الجامع الأزهر: تحريم الخمر ثابت في القرآن والسنة    عالم أزهري: الإسلام تصدى لظاهرة التنمر في الكتاب والسنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
الدرس الأول في شيكاغو
نشر في الأخبار يوم 09 - 09 - 2014

«هكذا بدأت بتعريف يقدم مساري وتكويني ورؤيتي بعد أن قدمني الأستاذ مايكل سيلز إلي الطلبة..»
في عام تسعة وسبعين من القرن الماضي، أثناء رحلة إلي لندن، دعاني الدكتور محمد مصطفي بدوي، الناقد والشاعر، أستاذ الأدب العربي باكسفورد المرموق، وقد قدر لي أن أراه قبل رحيله خلال زيارة لنفس الجامعة عام 2009 وكان متقاعداً إلا أنه جاء خصيصاً للاستماع إلي محاضرة ألقيها مما اعتبرته تقديراً أعتز به، وكان من الحضور أيضاً المؤرخ، الأستاذ القدير المعروف علي مستوي جامعات العالم الآن خالد فهمي وهو خريج اكسفورد، وحالياً أستاذ بجامعة نيويورك. في عام 1979 قال لي الدكتور بدوي إنها فرصة للقاء طلبة الدكتوراة للأدب العربي، عندما دخلت مكتبه في كلية سانت أنتوني وجدت ثلاثة من جنسيات مختلفة، ظننت أننا سننتقل للقاء الطلبة، في مدرج ما، كانت صورة القاعة الجامعية عندي مرجعيتها مدرجات جامعاتنا المزدحمة، ولكن عندما علمت أن الثلاثة هم الطلبة المعنيون باللقاء دهشت، غير أنني تذكرت حديث نجيب محفوظ عندما كان طالباً في قسم الفلسفة عام 1933، قال لي إن عدد الطلبة كان ثمانية في مرحلة الليسانس، منهم آنسة واحدة وكانت مثار حديث الجامعة لأنها تأتي بفستان نصف كم «شيفونيز» وللأسف غاب عني اسمها، عندما دخلت مع الأستاذ مايكل سيلز إلي قاعة علم المصريات التي كان جيمس برستد يلقي فيها دروسه لمحت حروفاً هيلوغريفية علي سبورة خضراء، الدرس السابق، سيظل ذلك مشهداً متكرراً في الدروس القادمة، أما حضور برستد فكان قوياً مؤثراً بما قرأته له وعنه، كان في الغرفة حوالي خمسة عشر طالباً وطالبة، قدرت العدد ولم أحصه، قدمني الأستاذ مايكل بما أخجل من ذكره، ثم انصرف لأصبح في مواجهة الطلاب الذين يدرسون الماجستير والدكتوراة، طبقاً للنظام هنا، إذاوجد أي طالب ما يهمه في برنامج الأستاذ الزائر يقوم بتسجيل اسمه، ويلتزم بالحضور، وإعداد ما يطلب منه، سواء قراءة مراجع أو إعداد أوراق بحث، وأقوم بتقدير رقم لمدي تقدمه وتقييم لنشاطه، إذا كانت درجة الاهتمام أقل يمكنه تسجيل اسمه كمنتسب وهنا يحق له الحضور كما يرغب، أحد الطلبة كان موظفاً في الجامعة، يتقن اللغة العربية إلي حد كبير، اسمه جيرت، أمريكي، أمضي في مصر ثلاث سنوات، اسمه المعروف به من خلال مدونة علي الانترنت «سيبويه» نسبة إلي عالم النحو العربي الشهير، وقد أهداني عملاً علمياً فريداً بذل فيه جهداً، قاموس لغوي لمفردات روايتي «الزيني بركات»، طبقاً للبرنامج الذي صممته قبل حضوري، تتضمن المحاضرة الأولي تعريفاً بأعمالي وبشخصي، خصصت الجامعة طالب دكتوراة، كمساعد لي لشئون الطلبة، هو الذي يتصل بهم، يخبرهم بالمراجع التي أطلب قراءتها، المختارات التي سنناقشها من الأعمال الأدبية المختلفة، ويكون حلقة وصل بيني وبين إدارة الجامعة، كما أنه ينظم عملية تسجيل الندوات وبثها علي موقع خاص في الانترنت يتبع الجامعة، والمحاضرات والمناقشات موجودة حتي الآن علي موقع خاص في إطار موقع جامعة شيكاغو.
المحاضرة الأولي .. أستطيع بسهولة تحديد أول كتاب قرأته، أذكر أنني كنت أعبر في أحد أيام طفولتي ميدان الحسين، كان أحد أيام الأعياد، عندما توقفت أمام كشك بائع الصحف، ولفت نظري كتاب البؤساء لفيكتور هوجو، طبعة بيروتية، اشتريته بسبعة قروش، وعندما رآه أحد أقاربي، قال لي بدهشة «إنه صعب عليك»، قرأت الرواية ولازلت أذكر سطوراً منها حتي الآن، ثم عرفت القراءة من خلال مصدرين، مكتبة المدرسة التي تعلمت فيها، الجمالية الابتدائية، وأذكر أني قرأت مجلات، مجلة «سندباد» كاملة التي كان يصدرها محمد سعيد العريان بأسلوب عربي رصين. كما قرأت سلسلة «أولادنا» وأذكر مما قرأته فيها قصة بينكيو، وجحا في جانبولاد، وأما المصدر الثاني لقراءاتي، فكان رصيف الأزهر، حيث باعة الكتب القديمة، ومنهم تعرفت علي روايات الجيب القديمة، وأرسين لوبين، وروكامبول، وجونسون، وبن جونسون، وقصص طرزان، وفي روايات الجيب قرأت لرفائيل سباتيني، ودستويفسكي، وأويجن سو اليهودي التائه وإميل زولا، وآخرين، كانت قراءات تلقائية تماماً. ولم يكن يوجهني أحد، كنت أقرأ كل ما تقع عليه يدي، وأحياناً كنت أقرأ بعض الروايات التي نزع غلافها والصفحة الأولي منها، وأذكر أنني قرأت روايات ضخمة ترجمت في بداية هذا القرن منها مثلاً رواية غرائب الاتفاق لمؤلف لا أذكره، ورواية وردة لمؤرخ ألماني عن التاريخ الفرعوني، كما قرأت سنوحي المصري لميكا والتاري. وقد تأثرت بها كثيراً، وقرأت روايات جورجي زيدان عن التاريخ الإسلامي، كما قادتني الروايات التي تدور حول الثورة الفرنسية إلي بعض الكتب التاريخية أذكر منها كتاب أشهر قضايا التاريخ الكبري. من الكتب التي أذكرها أيضاً كتاب المغامر المصري حافظ نجيب، وكان بوليسياً، ومن رصيف الأزهر عرفت كتب التراث العربي، الأمالي لابن علي القالي، والمعارف لابن قتيبة، والكامل لابن المبرد، ولازلت أحتفظ في مكتبتي بنسخة كاملة من نفح الطيب للمقري اشتريتها في هذا الزمن البعيد بقروش قليلة. هكذا مضت قراءاتي في اتجاهين الأدب العالمي المترجم، والتراث العربي، وكان ذلك تلقائياً.. إلا أنه حوي بذورا نمت فيما بعد، تطورت قراءاتي عندما عرفت الطريق إلي باب الخلق حيث دار الكتب المصرية، وبدأت أستعير منها الكتب التي لم يكن ممكناً لي شراؤها. قرأت الترجمات الكاملة التي طبعتها دار اليقظة العربية بدمشق، خاصة للكتاب الروس العظام، الحرب والسلام لتولستوي «4 مجلدات». حياتي لمكسيم جوركي، والأم، وفوما جوردييف، والفلاحون، والساقطون لنفس الكاتب، وقصص تشيكوف، وإيفان تورجنيف كما قرأت العاصفة، وسقوط باريس، لإيليا اهرنبورج، الحرس الفتي لالكسندر فادييف. وأذكر أن سلسلة ظهرت في هذه الفترة بعنوان مطبوعات الشرق قرأت فيها لألكسندر كوبرين «سوار من عقيق» وترجمة ممتازة لتشيكوف قدمها الدكتور محمد القصاص، ومجموعة قصص لسالتكوف شدرين. وبعض روايات تورجنيف. كان ذهابي إلي دار الكتب مرحلة أكثر تطوراً في حياتي، وعندما بدأت ودعت بذلك عهداً كنت أعيش فيه مع لوبين اللص الشريف وأحلم أن أفعل مثله يوماً أن أسرق من الأغنياء لأعطي الفقراء، وربما كان ذلك أول توجهي إلي الاشتراكية، وفي نفس الوقت كنت أتعرف أكثر علي التراث العربي القديم، خاصة المصادر التاريخية للتاريخ المصري في العصر الإسلامي، وقد أفادني في ذلك أنني تعرفت في سن مبكرة بالمرحوم الأستاذ أمين الخولي في ندوته الاسبوعية «الأمناء» التي كانت تعقد كل يوم أحد، وكان لتوجيهاته لي أثر كبير في تعميق قراءاتي التراثية، والآن بعد مضي أعوام عديدة علي هذه السنوات التي تمتد حتي بداية الستينيات «نشرت أول قصة في يوليو 1963 بمجلة الأديب اللبنانية» وفي نفس الشهر نشر لي مقال كنت ألخص فيها كتاب القصة السيكولوجية لليون ايدل ومنه تعرفت علي جيمس جويس وهنري جيمس ومارتان دوغار الذي قرأت له بعد سنوات عديدة روايته «أسرة تيبو»، الآن ألمح في هذه البدايات التلقائية بعض خصائص توجهي، فقد كنت أقرأ الأدب العالمي المترجم. والتراث العربي، خطين متوازيين استمرا معاً حتي الآن، مع نموهما، وتعميقهما، غير أنني لم أكن أقرأ الأدب العربي المعاصر بنفس القدر من التوسع، كنت أقرأ لهؤلاء الكتاب العظماء وأحلم بأن أكتب مثلهم، نعم لقد نموت في ظلهم، وتأثرت بهم، ولا تزال بعض الروايات التي قرأتها منذ حوالي ربع قرن تؤثر فيّ حتي الآن، أذكر منها رواية جورج أورويل «العالم سنة 1884»، لم أقرأ لمحمد عبدالحليم عبدالله، أو يوسف السباعي، وحتي يوسف إدريس قرأت له عدداً من القصص المتفرقة في مرحلة متأخرة نسبياً لمجرد الفضول «بعد تجاوزي العشرين»، غير أن الكاتب العربي الذي توقفت عنده طويلاً وقرأته بعناية وعمق كان نجيب محفوظ، وقد بدأ اهتمامي به وأنا في الخامسة عشرة من عمري كذلك تعرفت به في نفس المرحلة، وربطتني به علاقة عميقة أثرت في علي المستوي الشخصي عندما قرأت رواياته لأنها كانت تحمل عناوين نفس المنطقة التي أعيش فيها، خان الخليلي، بين القصرين، السكرية، قصر الشوق، وتوقفت أمامه طويلاً، ربما أيضاً لأنني وجدت رواياته في مستوي الروايات العالمية التي قرأتها ونموت من خلالها.. في سن متأخرة قرأت لتوفيق الحكيم «يوميات نائب في الأرياف» وقد أعجبتني أما «عودة الروح» فقيمتها تاريخية أكثر منها فنية، والكتاب الذي أثر فيّ من كتب الحكيم يمت إلي المذكرات وهو «زهرة العمر» أما مسرحه فأجهله، أما المجموعة القصصية «دماء وطين» ليحيي حقي فأعدها من الأعمال الرائدة والمهمة في الأدب العربي.
تفسير الأحلام
كانت لي قراءات أخري. في علم النفس، ومن الكتب التي قرأتها في فترة مبكرة وأثرت فيّ كتاب «تفسير الأحلام» لفرويد، وأذكر أنني استعرت هذا الكتاب من دار الكتب، وقد كان الدكتور مصطفي صفوان قد ترجمه إلي العربية، وكنت راغباً في اقتنائه، ولم أكن أستطيع شراءه «ثمن هذه الطبعة كان 150 قرشاً» فعكفت علي نسخة كاملة، لهذا أكاد أحفظ صفحات كاملة منه حتي الآن، كما قرأت عدداً من مؤلفاته الأخري كذلك تعرفت وأنا في السادسة عشرة علي الفلسفة، وكانت البداية الفلسفة المادية، حيث قرأت المبادئ الأساسية للفلسفة لجورج بولتيزير، وكان كتاباً يتداول سراً، وقد قرأته ضمن برنامج تثقيفي لمنظمة شيوعية أنضممت اليها وهي وحدة الشيوعيين ، وكانت تضم معظم رموز جيل الستينيات ، صلاح عيسي الذي رشحني لها ، والابنودي ، ويحيي الطاهر، وصبري حافظ، وظلت المنظمة تعمل بعد ان حلت الاحزاب الشيوعية الكبري كياناتها عام 1964 ، ولكنني تركت العمل السري قبل اعتقالي عام 1966، ثم قرأت العديد من المؤلفات الفلسفية والسياسية، بشكل عام كانت قراءاتي حتي السادسة عشرة تخضع للتداعي، بمعني أنني أقرأ رواية عن التاريخ الفرعوني، فأبحث عن كتب تدرس هذا العصر، وهكذا في كل المجالات. تعلقت في التراث بالتاريخ، وكان ذلك بتأثير من إحساس قوي بتوالي الزمن، ومروره، وتعمقت في قراءة المصادر التاريخية والحوليات، بدءاً من ابن عبدالحكم، وحتي الجبرتي، حيث الحياة اليومية مدونة، تكاد تحتفظ بطزاجتها، خاصة عند المقريزي وابن إياس، قرأت في التاريخ الفرعوني، خاصة موسوعة سليم حسن، وما كتبه الأجانب، ولكن العصر الفرعوني وبالذات العصر المملوكي فلا زال يلقي بظله الثقيل علي حياتنا، كنت أعيش في منطقة ذكرت في المصادر الأساسية، الشوارع لا تزال تحمل نفس الأسماء، والمناطق، ولا تزال هوايتي تتبع التطور الذي طرأ علي المكان الواحد، ماذا بني هنا، ومن عاش، وكيف الوضع كان، بعد هزيمة يونيو 1967 أعدت اكتشاف ابن إياس الذي عاش حقبة تاريخية مماثلة عندما كسر العثمانيون جيش مصر في مرج دابق، وعبر هذا المؤرخ بأحاسيس وطنية وألم صادق عن هذه الهزيمة، أحاسيس تشبه ما شعرت به في هذه الأيام السوداء في عام 1967، ومن الآداب التي اهتممت بالاطلاع عليها، الأدب الفارسي لما فيه من خصوصية، خاصة في «شاهنامة» الفردوسي، وشعر حافظ والفردوسي، والتاريخ الأسطوري لايران وفي السنوات الأخيرة تراث المتصوفين المسلمين. كذلك التراث الروحي للأديان المختلفة، مثل الهندوس، والصابئة، والبوذية والعقائد البدائية.
التفرد
منذ البداية، كنت أشعر بالرغبة في أن أكتب شيئاً لم أقرأ مثله، وقد مررت في ذلك بمراحل عديدة، فبعد أن قرأت كتاب «ليون إيدل» عن القصة السيكولوجية، كان في ذهني أفكار عديدة، مثل تحطيم الزمن، والمونولوج الداخلي، ثم تطور الأمر إلي الرغبة في التجديد في مجال الأسلوب نفسه، السرد، كنت أنظر بعين إلي الرواية العالمية، وبعين أخري إلي التراث، غير أنني لم أصل إلي صيغة تعبر عما أريد أن أكتب إلا بدءاً من عام 1967، وفي الفترة من 1963 وحتي 1968 نشرت عشرات القصص وروايتين قصيرتين «حكايات موظف كبير» في جريدة المحرر اللبنانية و«حكايات موظف صغير» في مجلة الجمهور الجديدة اللبنانية.. ولكني عندما أصدرت أول كتبي «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» في 1969، لم أضمنه إلا خمس قصص قصيرة كتبت كلها بعد عام 1967، كنت قد بدأت أستوحي من التراث أشكالاً جديدة للتعبير، وبرغم ذلك فقد ظل داخلي شعور قوي بالرغبة في تجاوز الأشكال الروائية التي قرأتها، واستلزم هذا مجاهدة طويلة بحيث يمكنني القول إنني بدءاً من روايتي «خطط الغيطاني» وبالتحديد في روايتي التي أعمل فيها الآن، كتاب التجليات استطعت تجاوز هذه الأشكال، أو بمعني آخر التخلص من الإحساس الداخلي بسيطرة المقاييس المتمثلة في الرواية الكلاسيكية، أو الروايات التي كتبت في أوروبا وأمريكا، في إطار موجات التجديد المنبثقة من هذه الأشكال، يمكنني القول الآن فقط إنني أتجه أكثر إلي وسائل جديدة للتعبير مستوحاة أساساً من التراث العربي.
.. إنني لا أقول إنني أخلق شكلاً أدبياً جديداً، وإنما أحاول تجديداً يتم بالطبع داخل إطار الفن الروائي، لقد كانت الرواية الغربية، أو الرواية التي كتبت في إطار الأشكال الأدبية المتعارف عليها بدءاً من «دون كيشوت» وحتي ما يسمي الرواية الجديدة في أوروبا وأمريكا، تمثل مقياساً يجب أن يحتذي بالنسبة للروائيين العرب، وما أقول به هو محاولة تأصيل شكل روائي يستمد مقوماته من التراث بمفهومه الواسع، بدءاً من التراث الشفهي للموروث الشعبي والذي استوعبته إلي حد كبير بفضل نشأتي في الصعيد والجمالية وحتي التراث المكتوب، وحتي سنوات قريبة كان داخلي الشعور بأن ما كُتب في الرواية العالمية يمثل المقياس لما يجب أن تكون عليه الرواية، غير أنني الآن أشعر أنني تخلصت تماماً من هذه المقاييس التي وضعها النقد أو الإحساس لدي الكتاب أما الرواية إما أن تكون هكذا أو لا تكون، وهنا يجب الإشارة إلي أن قلقي المستمر من أجل البحث عن شكل روائي جديد ليس من أجل خلق هذا الشكل فحسب، إنما أحاول إيجاد أشكال فنية تتوفر فيها مساحة أكبر من القدرة علي التعبير والحرية، وبما يتواءم مع تجربتي ومع ما أريد أن أعبر عنه، إنني في صراع دائم مع ما أريد أن أقوله من أجل حرية أكثر، وأعتقد أنني قد تخلصت من سطوة الأشكال الروائية السابقة إلي حد كبيربدءا من عملي الادبي الطويل «كتاب التجليات ».
خصوصية
لا يعني ذلك أنه ليست لديّ مقاييسي الخاصة، لقد نموت من خلال الرواية العالمية غير أنني كنت أحاول دائماً تجاوز جميع الأشكال المعروفة، والآن لديّ مقاييسي الخاصة النابعة من تجربتي بما فيها تلك المقاييس المستمدة من التراث، إنني لا أعمل من فراغ، عندي تراث من نماذج القص العربي، والرؤية. سواء تلك الكامنة في الشعر أو تراث التصوف أو كتب التاريخ أو العادات اليومية في الحياة الشعبية وهذا مجال فسيح يصعب حديثي عنه تفصيلاً، إنني أحدد التقاليد الفنية التي أريد أن أتجاوزها بكل ما كتب في الرواية العالمية، أحاول أن أستفيد منه، لا لكي أقلده، أو لأطبق مقاييس مسبقة، إنما لكي أتجاوزه من خلال موروثي الخاص، هناك طرق عديدة للقصّ، ولتقويم الشخصيات، علي سبيل المثال، عند محيي الدين بن عربي طريقة متميزة في قص الحدث، أو الكلام عن شخصية معينة، طريقة منفردة، لم أقرأ مثلها في أي رواية، إنها أقرب إلي وجداني، وأنا أقدر علي تذوقها، لماذا لا أتمثلها وأحاول أن تكون تلك بمثابة نقطة انطلاقي، تماماً كما حاولت من قبل مع تراث التاريخ المكتوب، وبالأخص ابن إياس، إن الإيقاع الداخلي للسرد علي سبيل المثال عند الشيخ عبدالكريم الجيلاني يختلف تماماً عن أي إيقاع آخر شعرت به من الأساليب الأخري، لأن هنا تجربة روحية مختلفة لم توجد إلا في هذا الواقع الذي أعيشه وأعرفه، من هنا أنا لا أعمل في فراغ، أو أخلق أشكالاً من الهواء، إنما أحاول أن أخلق شكلي الخارجي من خلال استيعابي للتراث العالمي، والتراث الروحي، أحاول الوصول إلي خلق شيء منفرد وهذا طموح أي فنان، وبالنظر إلي نشأتي، وطبيعتي، واهتماماتي كان التراث العربي هو الذي أقف عليه، أشب ثم أحاول تجاوزه أيضاً عندما أخلق شكلي الخاص المستند إلي هذا كله.
صحيح إنني نتاج خبراتي، ولكن نفس هذه القراءات اطلع عليها آخرون ولم يحاولوا، مصادر التراث العربي متاحة منذ زمن بعيد، الكاتب الوحيد الذي حاول في مجال الرواية هو إميل حبيبي في روايته «الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل».
الأسبوع القادم : الجزء الثاني من المحاضرة الأوليش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.