نعم أريد حضنه .. بل أريده بشدة وأحتاجه ، وأعترف باحتياجي له ورغبتي فيه واشتياقي إليه .. حضنه ! لاأريد منه زيارة خاطفة لاتشبع حنيني له ، ولامكالمة موبايل خاطفة لا تمنحني إلا المزيد من اللهفة عليه ، أو" ماسج "منه رائعة الكلمات تملأني فرحا ، ولكنها تسلب مني بهجة رؤية فرحة عيونه ! أريد حضنه هو ابني بشحمه بلحمه لا برقم هاتفه! في زحمة الحياة وتحت ضغوط الأمل الغامضة خرج الأبناء ولم يعودوا ، صاروا مشغولون بالبحث عن نصيب مقتطع لهم من تورتة الحياة، منهكون في طرقات المدينة القاسية التي عرفها من قبلنا وسنُعرّفها نحن لمن بعدنا باسم مدينة " القاهرة " وكأن قدرنا أن تقهرنا نحن وأبنائنا! ربما لايعرف الأبناء ، كم نشتاق إليهم ، وكم نحتاجهم كأكسير يجعلنا معهم ومن أجلهم نقاوم من أجل البقاء ، قد لايدرون كم تمنحنا ضحكاتهم أوكسجينا كي نتنفس ، وكلماتهم وقودا كي تشع طاقة أجسادنا ، ونظراتهم أملا كي تدور محركات قطار حياتنا . ومع هذا فأنا أريد مزيدا من حضن ابني مهما اقتربنا ومهما اغتربنا ،أريد أن ألقي برأسي في صدره ، وأن أشعر بالآمان في أحضانه ، أريد أن أطمئن أنه هو ملاذي ، وهو شاطئ أماني، وأنه مهما أبحر شراع قاربي فسيظل مرساي في حضنه ! أما حضن ابنتي ، فياله من حضن غريب ، منسوج بخيوط الحرير، ومرصع بماس المشاعر ، قادر علي استيعاب رغباتي ، واستقبال إشارتي ، والاستجابة لتحقيق أحلامي .. لقد اكتشفت ، بعد أن كبرت ، أنني أملك أغلي كنوز الأرض ، وأغلي معادنها ، وأصفي أنهارها ، وأحلي عسلها .. لقد اكتشفت أنني أملك حضن أبنائي. وانني أعيش في أحضانهم في مدن الدفء كلها ، وشواطئ الاستقرار كلها ، وجنات الله علي الأرض كلها .. لقد قررت أن أتمسك بأحضانهم الدافئة ، مهما باعدت بيننا الآت التكنولوجيا الباردة ..والشوارع المتصارعة ، والمسافات التائهة .. لن أتخلي عن أحضانهم أبدا .. مهما تاهت خطواتهم البريئة في طرقات مدينة الزحام ، وشوارع العصبية ، ومحاور الصراعات، سأحكي لهم عن حياة القاهرة القديمة الراقية والرايقة والهادئة ، القاهرة التي كانت تسهر آهاتها مع "أم كلثوم" ، ويتباهي نيلها بشعر " شوقي " ..ويزغرد ربيعها لضحكات " سعاد حسني " ويدمع ليلها من أشواق " حليم " وتبتهج جرائدها " بسخرية كاريكاتير " جاهين " وتزداد مناعة سدها العالي بحلم "ناصر " ! أريد أن أستأذن القاهرة كي تكف عن الصخب والجنون المحموم والغضب المتزايد ، أريدها أن تهدأ وتسترد وعيها وأناقتها ورقة سيداتها وشهامة رجالها ورضا مواطنيها .. أريدها أن تعيد لأبنائي هدوءهم ، وأن تزيد من آمانهم، وان ترد لهم وقتهم المسروق ، كي يعودوا سريعا إليّ .. فأنا أمهم التي لم يعد لديها ولا لديهم الوقت الذي يهدرونه في متاهاتها .. فيغيبون عن حضني ، وأتوه أنا بعيدا عن أحضانهم ! مسك الكلام عندما نكون صغارا نمنح أحضاننا لأبنائنا ، وعندما نكبر نصير نحن الأشد احتياجا لأحضانهم .. إنها معادلات زمن الحب الذي يملكنا ، ونحلم أن نملكه !