[email protected] قضيت أيام العيد بين أهلي وأحبائي في مدينة الشهداء، تلك البلدة الطيبة الواقعة علي أطراف المنوفية، وفيها وقعت حادثة دنشواي الشهيرة، علي بعد قليل جداً من بيتي الذي عشت فيه طفولتي ومطلع صباي، وأذكر أن جدي وأبي رحمهما الله كانا حريصين علي أن أتعلم تاريخ موطني الأول واتدبره، وأن اترسم خطي الذين سبقوني من الأوفياء الانقياء أصحاب الاخلاق الرفيعة والمبادئ الراسخة، نعم عدت إلي الشهداء اقطعها طولاً وعرضاً بحثاً عن تلك الفضائل التي ورثتها عن اجدادي وآبائي هنالك، وأخذت أجمع ذكريات الطفولة من فم الزمن الماضي وأتردد كالصدي بين أطلال »الكتاب« حيث شيخنا الضرير الذي لم تمح السنين صوته من مسامعي أو صورته من خيالي، ولا وقع عصاه علي أقدامي حين أخطئ في حرف واحد من حروف القرآن فيعيدني إلي تجويدي وجودتي قسراً وما أجملها من عودة، اليوم أترحم عليه، لأنه لولا عصاه وإخلاصه في تحفيظي القرآن لما كانت كلماتي قد أخذت طريقها إلي هذه الصحف العريقة. ولا تسألني لماذا حزنت وهزني الوجد القديم وأنا أري ما أري من زوال آثار »الكتاب« وقيام مبني صامت صلد مكانه، ليصبح سكناً لعشرات النازحين من القري من حولنا ليعيشوا في هذه المدينة الصغيرة تاركين قراهم وزرعهم من ورائهم لمن؟! لست أدري، ولا تسلني عن مدرستي الابتدائية الجميلة وماذا جري فيها، مدرسة »الفتح« التي كانت تحيطها الأشجار من كل مكان، وتهب عليها نسائم الفراغ من حولها، وقد ارتفعت المباني تحيطها بدلاً من الأشجار وترتفع عنها أمتاراً فتخنقها خنقاً بل تجعلها في مستنقع من الحجارة ليس يرحمها أو يرحم أيامها الخالية، لا تسلني، أذن عن بيتنا الذي كان منفرداً في أطراف المدينة يعانق بيت الصحفيين العظيمين، محمود ابو الفتح وأحمد ابو الفتح، صاحبي جريدة المصري الوفدية الشاهقة، فلم أجد الا بيتنا وقد تبدل به الزمن، وذهب البيت المقابل مع ما ذهب من رموز عظيمة، كأنها تضاهي في رحيلها »محلاً علي القاطول وأخلق دائرة« وما أحزن البحتري في قصيدته الخالدة. إنني الأن ادرك لماذا صنع الأدب اجمل آياته من آثار الديار، وآثار الاخلاق الماحلة، لقد تلوثت الاشياء الجميلة من حولي، حتي المقابر التي تحوي بين أضلاعها أحب الناس إلينا قد أحاطها مقلب ضخم من القمامة كأنه جبل ولا أعرف من الظالم الكاسر الذي ابتدع هذا العمل الاثم ليضيف الي القبح، أقبح منظر رأيته في حياتي. وبمن استنجد لانقذ أهل بلدتي من أمراض خطيرة سوف تلم بهم حتماً إذا استمرت هذه المهزلة وبقيت جبال القمامة تحيط بالمقابر التي يزورها الآلاف للاتصال بموتاهم والترحم علي أيامهم من أخاطب والمحافظ مشغول والمسئولون مشغولون بالانتخابات وما بعد الانتخابات، من أخاطب وكأن شيئا ليس من خطر هناك مادام المغلوبون علي أمرهم رضوا بهذه »المعيشة« المنقوعة بالهوان. وبرغم كل هذا فإن العيد كان طعمه المر أحلي من أي مذاق آخر في أي مكان آخر من الساحل الشمالي أو الساحل الشرقي، نعم تقاسمت معهم عذابات كثيرة، كان أكثرها شجناً هذه المعركة الانتخابية التي يتصارع فيها أناس ربما لا يعرف الغالبية الكاسحة من أهل بلدتي أسماءهم أو عناوين أعمالهم أو ما قدمت ايديهم من قبل لاقرب الناس اليهم، وبرغم هذا كان العيد جميلاً بين أهلي وأحبتي برغم لهيب العيش وشقاء الاسر بالقاعدين من الشباب عن العمل، وبرغم المشكلات المعقدة التي لم يقترب منها أحد من هؤلاء المرشحين الا أنه كان عيداً مليئاً بالمحبة الصافية، فلا يزال في قلوبهم عمار الإيمان وفي صدورهم الصبر الجميل. كاتب المقال : استاذ الطب بجامعة الازهر، عضو اتحاد كتاب مصر