كانت مدينة بنكهة الحلم، داعبت أحلام الكثيرين، واجتذبت منهم من استطاع أن يمتلك جرأة المغامرة، من القري البعيدة جاءوا إلي القاهرة.. تلك " النداهة " التي أغوت من وقعوا في أسرها وجعلت الفرار منها مستحيلا، كان الحلم يبلغ مداه في الصعيد الذي يشعر قاطنوه أنهم يعيشون في كوكب آخر، ووسط أمنيات الرحيل أصبح القطار كائنا سحريا يشبه مصباح علاء الدين، يتماثل ركوبه مع حكة المصباح التي تنقل صاحبها - بتحقيق أمنياته - بين عالمين، لهذا أصبح الكثيرون مدينين له بالفضل، وصار بطلا لأغنيات عديدة غازلت جيلا كاملا، بوصفه حامل الرسائل بين عاشقين باعدت بينهم المسافات، سيطر الشجن عند ذكره في عالم لم تكن الهواتف المحمولة قد أنهت مشاكل عزلته! من علي البعد أذكر صوت عفاف راضي الدافئ المتوسل ل " وابور الساعة 12 " : " خدني يا وابور.. أروح اتطمن ساعة ما اوصل لحبيبي.. وصلني إليه.. واتطمن عليه.. حاسب خدني معاك.. ان كنت مروح دوغري هتوصل بدري ديار حبيبي " . تمر السنوات وتتبدل الأمور، ويصبح للوطن مذاق آخر أكثر مرارة . يتحد الظلم والفساد ليغيرا ملامح المشهد، ويتحول القطار إلي نعش يجري علي القضبان . حتي عندما ينجو ركابه من الهلاك بفعل الصدفة وحدها فإن الكائن الحديدي يتحول إلي وحش يلتهم الأرواح البريئة ليسيطر اللون الأسود ويلتهم بقية الألوان! نعوش متعددة الطوابق! عندما كنا صغارا داعبت الإسكندرية أحلامنا، لم تنجح مدن أخري أكثر حداثة في أن تنزع عنها مكانتها، كانت تحمل خصوصية لا تتوافر في أي مدينة أخري.. إنها الروح! كبرت معنا وشبت معها أحلام يقظتنا التي بدأت بقصور رمال تعيدنا إلي عالم الأساطير، وفي مراهقتنا أخرجت الحواديت جنياتها لنبدأ في قصص حب مراهقة! ولأن ملامح الوطن بمفرداته تتبدل، فقد خلعت المدينة رداءها الأسطوري، وتحولت قصور الشواطئ الصغيرة - كأحلامنا - إلي بنايات تحتفظ بخصائص الرمال الهشة، والروح التي كانت تميزها صعدت إلي بارئها مع مئات الأرواح التي حصدتها الانهيارات! الألم يحل محل النشوة، ويزيد وقعه مع توالي التصريحات المستفزة لمسئولين اكتفوا بالرصد دون أن يتحركوا! عدد العمارات المخالفة التي تم تشييدها في خمس سنوات قبل الثورة وصل إلي 12356 عقارا، أي بمعدل يقترب من 7 عمارات يوميا، وفي عام ونصف بعد الثورة وصل عددها إلي 9497 بمعدل يتجاوز 17 عمارة يوميا! أتخيل جني المصباح يقف فاغرا فاه من الدهشة، لقد شعر بالتعب بعد أن حقق لعلاء الدين رغبته في بناء قصر واحد، لكن قدرات شياطين الانس فاقت قدراته . عندما قرأت قصص ألف ليلة تعجبت من عدم اندهاش أهل بغداد من ظهور قصر بينهم علي حين غرة، لكن الأمر تكرر في المدينة العتيقة التي لم يثر ظهور المباني المفاجئ بها دهشة مهندسي الأحياء، هؤلاء الذين اكتفوا بالتبرير في أعقاب كل كارثة! والغريب أن الإسكندرية - رغم العدد المرعب من المخالفات - تحتل المرتبة التاسعة بين المحافظات المخالفة! ! ميراث الغضب عقب كل كارثة يسارع المسئولون بتكرار الحجة نفسها : إنه ميراث ثقيل من سنوات الفساد . كلام حق يراد به باطل، فعندما قمنا بالثورة ضد أوضاع عفنة لم نقم باستيراد مسئولين من الخارج، بل تطوع هؤلاء لبناء نهضة موعودة وهم يعلمون حقيقة الأوضاع، وبدلا من أن ينشغلوا بالإصلاح انغمسوا في لعبة الكراسي الموسيقية! وضاعت التنمية في خضم المصالح . أيها السادة.. إن قوانين الميراث المستمدة من الشرع تفرض علي الوريث أن يسدد فواتير من ورثه قبل أن يفكر في الاستفادة من مغانم الثروة.. الثورة سابقا!!