وكأن سياسة العراك اللفظي لم تعد مُجدية عند الفرقاء المتشاكسين من أبناء الثورة، فبدأ كل طرف سياسي - أو هكذا يدّعي لنفسه - في البحث عن سُبل أكثر إيلاماً للطرف المنافس، وإن أضرّت بالمصلحة الوطنية التي يُماينون علي الناس بأنها قبلتهم التي يسعون إلي تحقيقها عن طريق ما يُنادون به من تظاهرات حاشدة في ذكري الثورة، علي الرغم من السعي الحثيث لمؤسسة الرئاسة لجمعهم علي كلمة سواء، ولكن يبدو أن اللعبة علي الساحة السياسية المصرية قد دخلت مرحلة جديدة من الوخم الثقيل الذي أفرز أبناء جدداً أصبحت معهم البلاد كالحبلي التي تحتاج إلي وضع طفلها سريعاً قبل أن يُجهض جنيناً، ومن ثمّ تبكي مولولة عليه..ولكن بعد الأوان بأوان. صندوق الدنيا..والآخرة! لا فرق أن تقابل ذلك في المترو أو المسجد أو البيت، بل ولو كنت حتي في بروج مُشيدة، ستحاصرك التساؤلات عن أي وِجهة قد ولاّها صوتك في الاستفتاء علي الدستور، وهل قلت نعم للاستقرار، أم أنك من مؤيدي الخراب والفوضي؛ بل ولن تجد مُلتحداً تهرب إليه حين يُباغتك رئيسك في العمل بسؤال التعري السياسي نفسه، فإن أردت الخروج من هذا الفخ فعليك بالرد مازحاً : المرء علي دين رئيسه. هذه هي الأمور في البرّ المصري، إما الأبيض أو الأسود، أما الرمادي فلا مكان له، ولعل هذا يثبت أن فطرة هذا الشعب نقية نقاء الحليب، وأن أمامه في الوقت نفسه مرحلة مخاض طويلة حتي يستطيع المشي علي حبل السياسة الدقيق؛ ولكن المهم أن يدرك أن البوصلة السياسية تتجه دائماً إلي منطقة الوسط ولا تعرف اتجاهاً بعينه، فالسياسة هي فن الممكن كما يُقال، والعبرة بعد ذلك باحترام ما اختارته الأمة عبر الصناديق، هذه هي اللعبة، سهلة جدًّا في التنظير وصعبة في التطبيق، إذ يكون الحل في كل العالم هو الصندوق، ولأننا نسير بالعكس دائماً فنرفض صندوق الدنيا ونجعله للآخرة أيضاً حين تخرج مظاهرات رافضة لرأي الأغلبية، متهمة الشعب بالجهل والخنوع، وفريق المؤيدين بالتأثير في قناعات الناس، وهذه الأخيرة يجب أن يُعاقب من يُطلقها بالهبل السياسي، إذ كيف يُعاب فصيل منافس بقدرته علي إقناع الناس بالتصويت في الاتجاه الذي يريده..الديمقراطية يا سادة لا تخضع لنا وإنما نحن الذين يجب أن نخضع لها وإن خالفت أهواءنا ومذاهبنا السياسية..فهل نفهم؟ عدس وعدسدس وعدّوس! لا أفهم أبداً ذلك الانشقاق الحاد الذي يحدث كل يوم داخل الأحزاب الإسلامية الوليدة التي لم تُفطم بعد، والتي تملأ الدنيا ضجيجاً بأنها القادرة وحدها علي إقامة الشرع ورفع راية الإسلام، مع أنها لا تستطيع حتي إقامة كيان واحد تجمع فيه شراذمها-هي- المفككة هنا وهناك، بل ولا تتوخي إلي رؤية مستقبلية تُجاهد من أجلها أو فكرة تسعي إلي تحقيقها، والأطرف أن يُفسر أصحابها هذا التشظي الفكري والفعلي بأنه الوقود الذي سيدفع العربة السياسية إلي بر الأمان؛ ظانين- وبعض ظنهم إثم - أن في تغيير الأشكال مندوحة لجذب أتباع جدد، مع أنهم خير من يعرف أن تلون الحرباء لن يجعلها طاووساً، تماماً كما لن يؤثر تغيير اسم العدس من مادته الأساسية التي صُنع منها، حيث حكي لي رجل قابلته مصادفة في أحد المطاعم الشهيرة، كنت قد لجأت إليه مُكرها لا بطلاً إثر مؤتمر صحفي استمر ساعات طويلة دون حتي شربة ماء، كيف كانت أمه تُحاول التخفيف عنه بتغيير اسم العدس حتي لا يملّ منه خاصة أنه كان الوجبة اليومية للفلاحين في أيام حصاده، حيث كانت تُجيب عن سؤاله اليومي عن طبيخ اليوم ضاحكة : اليوم عدس وغداً عدسدس وبعده عدّوس!!