الاكاذيب في بلدنا.. تكشفها الحرائق.. ومنذ ايام نشرت الصحف صورة لنيران تتصاعد من عربة مترو الميرغني.. وقالت انه قد نشب الحريق بسبب حدوث ماس كهربائي لاحتكاك »مشابك« المترو مع اسلاك الكهرباء! ومترو الميرغني الذي اصابه الحريق.. هو احد فروع مترو مصر الجديدة الذي اصابته الشيخوخة المبكرة منذ 30 سنة وتجاوزت 90٪ من عرباته العمر الافتراضي دون احلال او تجديد او حتي صيانة وبالتالي لم يعد له وجود واختفي عن عيون الركاب الذين يعانون سوء الانتقال بين اطراف الضاحية المترامية الاطراف في وقت ماتت فيه العزائم.. ورضي فيه الناس بالسكون والخمول وتقبل البلاء في اثر البلاء. اختفي مترو مصر الجديدة الذي انشأته الشركة البلجيكية التي اسست مصر الجديدة سنة 1908.. بهدف جذب السكان من القاهرة القديمة للضاحية الجديدة.. وبالتالي فقد كان في زمانهم اقدم واحدث وارقي وسائل المواصلات في مصر.. علي الاطلاق.. كان مترو مصر الجديدة هو وسيلة الانتقال المثالية التي تربط اطراف الضاحية وتسهل علي الملايين من سكانها الانتقال الآمن.. وتخفف من الاختناقات المرورية التي تسببها السيارات الخاصة ووسائل المواصلات العامة التي يتكدس بداخلها الركاب من مختلف الاعمار ويختلط فيها الحابل بالنابل.. والواقف بالقاعد.. والنائم بالمتثائب والشيوخ بالعذاري! لقد حرص البارون امبان البلجيكي الجنسية علي ان يكون في كل عربة مكان مخصص للسيدات بحكم ما كان يتمتع به هذا الرجل من دقة النظر وصحة القياس وسعة الافق.. واحترام المكانة التي تتمتع بها المرأة في الاسلام من استقباح التحرش.. وظل مترو مصر الجديدة لسنوات طويلة مضرب المثل في الاناقة والنظافة ودقة المواعيد.. واحترام الآدمية ولم تعرف الضاحية الراقية الاختناقات المرورية ولا الاوتوبيسات المدرسية التي تنقل التلاميذ من البيوت للمدارس ولا امتداد الاعناق وتهدل الشفاة في الانتظار الطويل ولا اشتداد الهول في الصعود والهبوط.. والسخيف في الموضوع ان خبراء التخطيط العمراني الذين جاءوا في سنوات الفرص الضائعة علي رأي الدكتور مصطفي الفقي لم يحاولوا تقليد تجربة البارون امبان عندما وضعوا اسس الاحياء والمدن الجديدة كمدينة نصر ومدينة العبور والشروق والسادات والعاشر من رمضان وتركوا هذه المدن التي يقطنها ملايين البشر بلا خطوط ترام او مترو يربط اطرافها وتركوها نهبا لعصابات الميكروباص وعربات النقل المتهالكة وحوادث الطرق التي تقع علي مدار الساعة بسبب السير في عكس الاتجاه.. وامتدت هذه الثقافة المتدنية لمترو مصر الجديدة تدهورت احواله واسندت مسئولياته لاناس اتسموا بالاهمال والتسيب واختفي الزي الرسمي الانيق الذي كان يميز السائق والكمساوي والمفتش.. وحلت محله الملابس الرثة التي يختارها كل عامل وفق هواه.. وقدراته المادية واذواقه الخاصة ولم تعد العيون تفرق بين العامل في شركة مصر الجديدة وبين البائع الجوال الذي يسرح بالمنتجات الصينية ويحمل بين يديه مجموعة من المسدسات البلاستيك وينادي علي بضاعته بجملة »خللي حماده يلعب« أي يلعب بالمسدس.. واستمر التدهور سنة بعد الاخري الي ان اختفي المترو واختفت معه الوجوه الصابرة التي كانت تنتظره علي أحر من الجمر علي المحطات التي تحولت لارصفة واضطرت المارة للسير علي نهر الطريق بين العربات الخاصة والميكروباصات الجامحة.. ولم يعد مترو مصر الجديدة من الملامح المميزة للضاحية التي كانت راقية في ابشع صور صراع الحضارات.. ودارت الايام واختفي المترو تماما.. الي ان فوجئ ملايين السكان بالخبر الذي نشرته الصحف عن الحريق الذي اندلع بعربة مترو الميرغني واصاب الناس بالدهشة المفرطة.. ودفعهم للتساؤل:. هل لا يزال مترو الميرغني علي قيد الحياة؟ وذكرهم باغنية أم كلثوم »كلموني تاني عنك.. فكروني وافتكرت فرحت وياك قد ايه.. بعدما صدقت اني قدرت انسي بعد ما قلبي قدر يسلاك وينسي«!.. هذا الحريق كشف سلسلة من الاكاذيب الحكومية ترددت طوال الثلاثين سنة الماضية عن مشروعات وهمية لتطوير المترو وحكايات المقطورات الجديدة التي سيتم استيرادها واعلن احد وزراء النقل ايامها عن مشروع »السوبر ترام« الذي يربط بين هليوبوليس والقاهرةالجديدة وقال الوزير ايامها ان »السوبر ترام« سيبدأ تنفيذه خلال الاشهر القليلة القادمة وسيتم ربطه بالشبكة الاقليمية لمترو الانفاق(!!) لخدمة منطقة شرق القاهرة وينقل 250 ألف راكب يوميا وهلمجرا! واختفي الوزير ومعه المشروع الذي قال انه سيتكلف خمسة مليارات جنيه وجاء وزير جديد قال انه اعد مشروعا لاعادة الروح لمترو مصر الجديدة يتكلف مليار جنيه علاوة علي منح كل سائق وكمساري بدلة من أجود الاقمشة مزودة برقم!! وفي كل مرة تتردد الاكاذيب دون ان يتحقق علي ارض الواقع سوي السراب وتبقي المشاكل وتزداد مع الايام تعقيدا سواء بالنسبة لمزلقانات السكك الحديدة او مترو مصر الجديدة ويبقي الواقع الحزين الذي نعيشه وهو ان الاكاذيب في بلدنا لا تكشفها سوي الحوادث الكبري والحرائق ولكن كما تقول أم كلثوم للصبر حدود!