ماذا فعل جلال الحمامصي وموسي صبري وماذا نفعل نحن الآن؟ الثانوية العامة صارت قوة إعجازية، عامة علي كل الناس، »مدوخة« المجتمع المصري كله، مسيطرة علي حياتنا تترك اثراً وجرحاً كل يوم، شرسة لا تشبع، ولا يهتز لها جفن طغيانها يشمل الجميع بدءاً من الجنين في بطن أمه، المنتظر مجيؤه لتصل به مسيرة الحياة الي الحد الفاصل المسمي الثانوية، وما ادراك وأدراه ما هي!! ونصل الي رب الأسرة والمتعاطفين معه او المعزين له، والمعارف والجيران والأصدقاء أيضاً هي الشغل الشاغل للمدرسين وأصحاب الكتب الخارجية وهذا العام كان لها دوي خاص ثم الجهاز التعليمي كله حتي نصل لوزيري التربية والتعليم والتعليم العالي.. الثانوية العامة تدخل الآن غرف النوم مثل الفضائيات لكنها تحمل معها هموم الدنيا لقلوب الآباء والأمهات والطلاب، دون قوة علي صدها. والمدرس يحمل هماً أكبر عن سعر الحصة سواء لطالب او مجموعة طلاب، تقسيطاً أو نقداً.. هو يسهر للتدريس ثم جمع المحصول وعذراً للتعبير الريفي ثم يفكر في مكان النوم غداً بالمدرسة.. هل في فصل أولي أول أم ثانية خامس أم حسب الظروف!؟ الحكومة بجلالة قدرها تعمل ألف حساب للثانوية، وتتواري أمامها مشاكل المياه والصرف الصحي والكهرباء ورغيف العيش واسطوانات البوتاجاز واللحوم المحلية والمستوردة، حتي قيل ان عبور القناة في حرب أكتوبر كان أكثر سهولة من عبور »مختنق« الثانوية الي المرحلة الجامعية فهي ملكت السيطرة علي القري والعزب والنجوع ايضاً شغلت كل مؤسسات الدولة والاعلام بكل فروعه: المرئي والمسموع والمقروء.. إلخ. وإليكم هذا المشهد: في العام قبل الماضي فاز 4 من أبناء المنيا بالمراكز الأولي بالثانوية علي مستوي الجمهورية.. وكان عليّ كتابة تحقيق صحفي عاجل في وقت ضيق وإرساله للجريدة سريعاً حتي يمكن اللحاق بالطبعة الأولي وبما ستصدره »الأخبار« عن باقي الفائزين.. كان لابد من ان التقي بهؤلاء الناجحين أو الناجين وأسرهم وجيرانهم ومعارفهم علي قدر الامكان وقيادات مدارسهم. تبين ان الاربعة ليسوا من مدينة المنيا وحدها بعضهم في مدن اخري، وبعضهم سافروا للقاهرة لكن الصحافة لا تعرف اليأس أو المبرر، خاصة انني اجلت سفري للقاهرة قبل ظهور النتيجة بعدة أيام، حتي لا تقع الواقعة وأنا خارج المنيا!.. ويوم الظهور اتصلت بالجريدة صباحاً أسأل: هل للمنيا نصيب في الفائزين أم لا، ما الأسماء والعناوين اذا ما كانت توافرت من الوزارة؟ قيل لي لم تظهر النتيجة بعد. وتكرر الامر عدة مرات. قلت لعل الوزير أجل الاعلان للغد او سيعلنه في مؤتمر صحفي. بحثت في قنوات التليفزيون فلم اجد شيئاً، وبينما انتقل من قناة لأخري، فوجئت بفيلم للفنان نور الشريف يؤدي فيه دور شاب ريفي يدعي شحاتة أبو كف، جاء من قريته ليلعب لنادي الزمالك، وأمام محطة مصر وفور وصوله، تعرض للشجار مع سيدة »سعاد حسني« حول أسبقية ركوب تاكسي. تم القبض عليهما واقتيدا الي قسم الازبكية وهناك تم حبسه لعدم وجود بطاقة شخصية معه فقد سرقت مع محفظته اثناء المشاجرة. كانت هذه اول صدمة له مع الدنيا الجديدة لكنه كان يحمل معه صحيفة كتبت عنه ونشرت صورته وببراءة قدم الصحيفة من وراء القضبان لضابط الشرطة فأفرج عنه. كانت موهبة أبو كف هي التي انقذته من سوء تعامل المجتمع معه وبدت الموهبة كأنها طريق الحماية والنجاح معاً. المهم ان شحاتة اسرع الي نادي الزمالك وحقق معه انتصارات عديدة خاصة في مواجهة النادي الأهلي! كان الفيلم مليئاً بمواقف ممتعة ادخلت السرور الي قلبي، حتي جاءني الهاتف من الجريدة بأن النتيجة ظهرت والمنيا فازت بأربعة مراكز.. وكان حتماً ان أفارق شحاتة علي أمل اللقاء فيما بعد. ورغم صراعي مع الوقت لاجراء التحقيق الصحفي مع كل الاطراف والشد العصبي لانجاز المطلوب، أعددت الموضوع واسترحت نفسياً وعصبيا ثم عدت لأكمل مشواري مع أبو كف.. لكنه ضاع فقد انتهي الفيلم! وحزنت علي ما فاتني.. ناقماً علي من كان السبب!!. طبول الحرب الأحد: في مقارنة بسيطة بين الاثنين: أبو كف شاب يتطلع للنجاح، يخدم مواهبه ينميها بالتدريب هاديء عفيف اللسان لا تسمع له ضجيجا يهز من حوله كما تفعل الثانوية! قنوع يرتدي الجلابية عندما يكون في منزله واذا كان الجو حاراً فليس لديه تكييف، بل يكتفي بخلع الجلابية والحفاظ علي السروال!! لكن طيبته هذه اوقعته في اتهام انه عضو في شبكة دعارة فقد سكن في بيت لا يعلم من فيه، وهاجمت الشرطة البيت واقتيد شحاتة الي السجن، في وقت كان النادي يبحث عنه للعب مباراة هامة، وتدخل النادي وتم الافراج عنه، وهكذا انقذته موهبته من كل سوء مجتمعي تعرض له. اما الثانوية فلا تعرف الشفقة أو الرحمة، فهي تدق طبول الحرب شحاتة لعيب »لقطة« لكنها الثانوية العامة لقيطة لا تعرف من أين جاءت وإلي أين ستقودنا. انها لا تبحث عن مواهب فهي تفضل الحفظ ناسية انه الطريق الخطأ للابداع! سألت كثيرين من الأوائل لعدة سنوات عن مدي حبهم لكل المواد التي تفوقوا فيها فاستنكروا بعضها قائلين: استذكرناها من اجل المجموع!! ايضاً لم نسمع عن نجاح بنسبة 011٪ هذا فوق العقل والمصداقية!. شحاتة سرقوه في المحطة لكن الثانوية تسرق عيني عينك أموال أولياء الامور بالكتب الخارجية والمدرسين، يكفي ان بعضهم يطلب من تلاميذهم القسم بالله انه لن يقدم مذكرات »الاستاذ« بعد انتهاء العام الدراسي لأي طالب آخر في العام الجديد حتي لو كان غير قادر علي دفع رسوم المدرسة أو كان فقيراً معدماً ومنطق الاساتذة لمن سنبيع السنة الجاية؟ شحاتة أبو كف فتحت مواهبه المنماة سوق العمل فأبدع ووصل الذروة، وغطي ضعف جوانبه الاجتماعية. فصاحب السروال صار من المشاهير لكن الثانوية العامة لا تكف عن التهديد والوعيد انت للطب وذاك للهندسة.. إلخ.. والمجموع هو الفاصل وليس الرغبة والقدرة علي ابداع والتنمية وتوفير فرص العمل حسبما تريد هي وليس غيرها. نهايته: علي المجتمع وكل من اصابه سوء البحث عن حلول وتطوير ومن جانبي اقترح أن يشمل التطوير منهجاً حديثاً يسمي الثانوية العامة وشحاتة أبو كف.. بين النظرية والتطبيق!!. مكتبة الكونجرس الاثنين: منذ سنوات وفي جلسة للمجلس الشعبي لمحافظة المنيا، تحدث وكيل وزارة التربية والتعليم آنذاك عن التطوير قائلاً ان أصغر طالب في أصغر قرية يستطيع الآن عن طريق الكمبيوتر ان يتصل بمكتبة الكونجرس الامريكي، ليحصل علي ما يريده من معلومة هكذا حتة واحدة ورد اعضاء المجلس عليه أنه تناسي ان الاجهزة موجودة بالمخازن لعدم وجود غرف او كراسي لاستخدامها وليس هناك مدربون! والتلاميذ لا يجدون دورات مياه كافية حتي انهم في القري يقضون حاجاتهم في الزراعات المجاورة، ونشرت »الاخبار« الجلسة وإذا بالمسئول يرسل لرئيس التحرير ان ما نشر غير حقيقي شكلاً وموضوعاً مطالباً بنشر رده وفقاً للحق القانوني.. هكذا!! تم نشر الرد.. واعددت رداً عليه فيه نص حوار الجلسة وبأرقام الصفحات وكلام الاعضاء بالاسماء وردودهم علي ذاك المسئول!! تذكرت هذا الفيلم الحقيقي وفيلم ابو كف فوجدت ان الأخير اكثر مصداقية منه ومن كثيرين علي كل المستويات!. الثلاثاء: ذات يوم دخلت مكتب الاستاذ موسي صبري كان يراجع »بروفات« لكتاب جديد اسماه »الصحافة الملعونة« وسلمني عدداً منها يتحدث عن موقف كبير للاستاذ جلال الحمامصي عندما كان يرأس تحرير جريدة »الزمان« ومعه موسي سكرتيراً للتحرير، حين فوجيء بخبر اغتيال محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء وهو في طريقه الي مكتبه في صالة وزارة الداخلية كانت الجريدة علي وشك الطبع فأسرع الحمامصي بتغيير شامل لكل الصفحات لتلحق الصحيفة بالطبعة الأولي.. وارسل 2 مصورين لموقع الحادث وثالثا لبيت النقراشي ومعه محرر لعمل لقاء مع اسرته وماذا كان رد الفعل عندما سمعوا بالنبأ وطلب الحمامصي كتابة مقال رثاء والبحث عن التوقعات لرئيس الوزراء القادم.. الخ.. كان هناك صراع مع الوقت لانجاز عمل الجريد في وقت كانت الصحف تطبع بطريقة جمع المادة الصحفية بالرصاص كان الحمامصي يتلقي الانباء أولاً بأول ويرسلها لموسي في المطبعة حتي دارت لتعلن الانجاز غير المعقول وصعد موسي بأول نسخة ليجد الحمامصي مرتمياً بجسده علي مكتبه يبكي بحرارة عنيفة.. فقد كان النقراشي صديقاً حميماً له!! وسألني الاستاذ موسي: ما رأيك؟ وحتي استجمع نفسي، قلت له: من بروفات الكتاب ام الموقف؟ فضحك قائلاً: من الموقف، رددت غاية الموضوعية، ان يجنب الانسان عواطفه حتي ينجز عمله هذا امر يحتاج قدرة عالية من الانصاف بين ما هو لي وما للمجتمع. لو ظل الحمامصي يصرخ ويبكي من اول سماعه للنبأ ما أنجز أو انتصر لحق القاريء.. تذكرت هذا الموقف ونحن نشهد الآن »المعمعة« الاعلامية والانفلات الذي يكاد ان يأكل المجتمع غير منصف بين ما هو حق الفرد وحق الاخرين بغير اسقاط أو اسفاف او سعي للتخريب بدلاً من الانجاز. ذكريات كلمات الخميس: عندما اخطيء رغماً عني.. عندما تغضب مني.. تذكر كم نحن متحابان في زمن يندر فيه الحب.. تذكر كم نحن متقاربان كالضوء والظل.. كالمياه في أحضان النهر.. عندما اخطيء رغماً عني.. تذكر أن وطنك صدري تذكر انك حبي الحقيقي.. يا حبي الحقيقي. للأمانة: هذه كلمات مترجمة، قرأتها في زمن الشباب وأري أنها تصلح لزمن الشيخوخة!!.