ولما عاكستنا السياسة فقد هممت مكاتبتك اليوم عن "أخبار الحمقي والمغفلين" لابن الجوزي، إلا أنني تحولت إلي صفحات أخر من التراث، ذلك حتي لايأخذنا أحد علي محمل الملاسنة وسوء النية. " كان المأمون قد هم بلعن معاوية بن أبي سفيان فمنعه عن ذلك يحيي ابن أكثم، وقال له: يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تحتمل هذا، دعهم علي ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميل إلي فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة. فركن المأمون إلي قوله، فلما دخل عليه ثمامة بن الأشرس، قال له المأمون : يا ثمامة، قد علمت ما كنا دبرناه في معاوية، وقد عارضنا رأي أصلح في تدبير المملكة، وأبقي ذكرا في العامة. ثم أخبره ما أشار به يحيي. فقال ثمامة: يا أمير المؤمنين، وهل العامة عندك في هذا الموضع الذي وضعها فيه يحيي؟! والله ما رضي الله إلا أن سواها بالأنعام حتي جعلها أضل سبيلا، فقال تبارك وتعالي: " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون او يعقلون. إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ". واستطرد: والله لقد مررت منذ أيام في شارع الخلد، فإذا إنسان قد بسط كساءه وألقي عليه أدوية وهو قائم ينادي: هذا الدواء للبياض في العين والغشاوة وضعف البصر، وكانت إحدي عينيه مطموسة والأخري مؤلمة، والناس قد انثالوا عليه، واحتفلوا إليه يستوصفونه. فنزلت عن دابتي، ودخلت بين تلك الجماعة فقلت: يا هذا أري عينيك أحوج الأعين إلي العلاج، وأنت تصف هذا الدواء وتخبر أنه شفاء، فما بالك لا تستعمله؟! فقال : أنا في هذا الموضع منذ عشرين سنة ما رأيت شيخا قط أجهل منك ولا أحمق! قلت : وكيف ذلك؟ قال يا جاهل، أتدري أين اشتكت عيني؟ قلت: لا. قال: بمصر! فأقبلت علي الجماعة فقالت: صدق الرجل. فأنت جاهل! وهموا بي. فقلت: والله ما علمت أن عينيه اشتكت بمصر. فما تخلصت منهم إلا بهذه الحجة! " من كتاب "المحاسن والمساوئ" لابراهيم بن محمد البيهقي. وللقصة في مغزاها ومعناها دلالات ومرام، والمسكوت عنه فيها أبلغ مما تم سرده وحكايته. وهي مشهد في قصة صراع التاريخ والحداثة بين الفكر وتجلياته والسياسة وشطحاتها والسلطة وتطلعاتها وشروطها وبين ذلك كله يضيع البسطاء والدهماء والعامة ويتفرقون ما بين جهول أملس العقل قاعد الهمة وبين فاهم واع تأخذه الخفة ويدفعه التسرع والهوي إلي الشطط والمجازفة وانتهاز الناس واستغلالهم. ويبقي في ذلك كله بريق السلطة واستغلالها وتواطؤ السياسة وركونها وشكلية الثقافة وانقطاعها وجهل العامة وانقيادها. القصة تحكي عن صدر الدولة العباسية الأول مع الخليفة المأمون في بغداد والصراع مع بني أمية ودولتهم وما أحاط ذلك من صراع الفكر والدين والسياسة في فرق وأفكار ورجال من سنة وشيعة ومعتزلة ومرجئة وخوارج ومتكلمين وباطنية وفلاسفة وأصحاب منطق وبرهان أو صوفية وأهل كشف ومشاهدة أوحسبما جاء عند الغزالي والتوحيدي والبغدادي والشهرستاني والراوندي والنوبختي وغيرهم. وكان يحيي ابن أكثم من خاصة المأمون وحاشيته وهو صاحب رأي وثقافة لا تخلو من حيلة وانتهاز ونفعية، فأشار علي المأمون ألا يعلن في السياسة موقفاً محدداً حتي ولو كان ضد معاوية وذويه، ليظل وسطاً بين الجميع ومحسوبا عليهم، وذلك هو دهاء السياسة . وعلي عكس موقفه كان ثمامة بن الأشرس وهو من هو، واحد من أئمة المعتزلة وأقطابها وإمام أهل الفكر الحر في العصر العباسي الأول وهو القائل لهارون الرشيد " إن أسوا الناس حالا، عاقل يجري عليه حكم جاهل". وهو هنا في قصة البيهقي عن المأمون يسخر مما عساه يكون من مكانة للعامة عند الخليفة واحترام كما يري يحيي ابن أكثم وكما أشار علي الخليفة. فها هو المثقف الطليعة ثمامة بن أشرس - أو هكذا يفترض أن يكون - لا يعبأ بالعامة ويحرض علي تجاوزهم وعدم الاعتداد بهم والهزء منهم وكيف أنهم بسطاء جهلاء مستلبين. ولم لا أليسوا فاقدي الإرادة مدمني الانقياد لكل من يعرض نفسه عليهم حتي ولو كان بائعاً جوالاً تشي هيئتهه بعدم الجدارة والتلفيق والكذب، يدعوهم للتداوي بينما أعياه هو الداء نفسه ولا أحد يفكر أو يتذكر أن فاقد الشئ لا يعطيه ولو كان في دوائه خير لكان أولي أن يشفي به عيني رأسه. ولعل الأدهي في ذلك والأنكي إدعاؤه بإن ربما هذا الدواء لم ينفع عينيه إذ أنها ما اشتكت إلا بمصر. ورغم رداءة الفكرة في منطقه وتهاوي حجته، إلا أن صاحب الحاجة أرعن، والناس دائما أصحاب حاجات، ولا كرامة لرجل كانت حاجته وأهدافه عند قدميه. والمفارقة في قصة المأمون هي أنها وضعتنا بين أكثم والأشرس، بين مثقف ومثقف كلاهما غازل السلطة، وسواء حرضها علي الجماهير أو تحايل عليها إلا أنه شارك في تغييب وعي الناس وآثر النجاة بنفسه ومصالحه وأقر معهم أن عينه ما اشتكت إلا بمصر. مصر التي يوجع قلبها قبل عينيها تنكر النابهين من أبنائها لأدوارهم ومسئولياتهم في التنوير والإصلاح والنهضة وتكالبهم علي تصدر المشهد بينما لو أخلصوا وتجردوا لاستطالت قاماتهم أعلي وأرفع. وهنا اسمحوا لي ان أقلب معكم صفحة في كتاب " سيرة أحمد بن طولون " للبلوي، ذلك أن ابن طولون لم يكن صاحب إمارة ومؤسس دولة فحسب لكنه كان صاحب فكر ورؤية لا تنقصه همة ولا يقعده عزم وقد جاءت كلماته في نصح ابنه العباس واضحة بلا التباس إذ يقول له أي بني: " لا تلق بهمتك علي صغار الأمور فيمنعك ذلك من كبارها، ولا تشتغل بما يقل قدره فلا يكون فيك فضل لما يعظم شأنه«.