قاتل الله السياسة، فقد آثرت ألا تغادرنا حينما حاولنا مغافلتها إلي كتب التاريخ والمأثورات والسيرة، وإذا بها علي مقعدها الوثير هناك تنتظرنا وتباغتنا بالسؤال عن حكمة التراث مع بلادة الجهل، وكيف أننا أمة لا تتعلم من أخطائها وكأنها قامت بتدجين التاريخ وتطويعه فغد عجوزاً يزورها كل حين، لا تتجدد في حكاياه ورواياته إلا أساليب القص والسرد وحبكات الرواية، بينما تبقي الأحداث واحدة مكرورة معادة وإن اختلفت الأسماء والأمكنة. ولأن السياسة، صديقتنا اللدود كانت دائماً صاحبة هويً وغواية، وهي منذ عرفناها لم تخل سيرتها ودروبها أبداً من عورات التفكير واعوجاج السلوك وسوء المقاصد، وهي تصر علي أن تفرض نفسها فتحرجنا وتسرق حياءنا وتضعنا أمام أنفسنا في مرآة القديم من التاريخ والتراث وكأنها تفتش عن فيوضات اللحظة وتجلياتها وتصاريف الأحوال وتطابق أحداثها. مدت صديقتنا اللدود يدها المغرضة إلي مكتبة التراث وتخيرت منها كتاباً وفتحت صفحاته لنقرأ معها في "المحاسن والمساوئ" لإبراهيم بن محمد البيهقي، عن عصر المأمون (891 - 812ه/ 318 - 338م) من صراع الفكر والسياسة وانتهاز المثقفين وتلمظ النخبة للتنفذ والسلطة وتعاليهم علي الناس وقطيعتهم عن الجماهير ومصالح البسطاء والعامة. كتب البيهقي "كان المأمون قد هم بلعن معاوية بن أبي سفيان فمنعه عن ذلك يحيي ابن أكثم، وقال له: يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تحتمل هذا، دعهم علي ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميل إلي فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة. فركن المأمون إلي قوله. فلما دخل عليه ثمامة بن الأشرس، قال له المأمون: يا ثمامة، قد علمت ما كنا دبرناه في معاوية، وقد عارضنا رأي أصلح في تدبير المملكة، وأبقي ذكراً في العامة. ثم أخبره أن يحيي خوفه إياها. فقال ثمامة: يا أمير المؤمنين، والعامة عندك في هذا الموضع الذي وضعها فيه يحيي! والله ما رضي الله أن سواها بالأنعام حتي جعلها أضل سبيلاً، فقال تبارك وتعالي: " أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا ". والله لقد مررت منذ أيام في شارع الخلد، فإذا إنسان قد بسط كساءه وألقي عليه أدوية وهو قائم ينادي "هذا الدواء للبياض في العين والغشاوة وضعف البصر". وقد لاحظت أن إحدي عينيه لمطموسة والأخري مؤلمة، والناس قد انثالوا عليه، واحتفلوا إليه يستوصفونه. فنزلت عن دابتي، ودخلت بين تلك الجماعة فقلت: يا هذا أري عينيك أحوج الأعين إلي العلاج، وأنت تصف هذا الدواء وتخبر أنه شفاء، فما بالك لا تستعمله؟! فقال: أنا في هذا الموضع منذ عشرين سنة ما رأيت شيخاً قط أجهل منك ولا أحمق! قلت: وكيف ذلك؟. قال يا جاهل، أتدري أين اشتكت عيني؟ قلت: لا. قال: بمصر! فأقبلت عليَ الجماعة فقالت: صدق الرجل. فأنت جاهل! وهموا بي. فقلت: والله ما علمت أن عينيه اشتكت بمصر. فما تخلصت منهم إلا بهذه الحجة!" من كتاب "المحاسن والمساوئ" لابراهيم بن محمد البيهقي. وللقصة في مغزاها ومعناها دلالات ومرام، والمسكوت عنه فيها أبلغ مما قيل وتم سرده وحكايته. وهي مشهد في قصة صراع التاريخ والحداثة، بين الفكر وتجلياته والسياسة وشطحاتها والنخبة وتطلعاتها والسلطة وشروطها، وبين ذلك كله يضيع البسطاء والدهماء والعامة ويتفرقون ما بين جهول أملس العقل قاعد الهمة وبين فاهم واع تأخذه الخفة ويدفعه التسرع والهوي إلي الشطط والمجازفة وانتهاز الناس واستغلالهم. ويبقي في ذلك كله شطط السلطة واستغلالها وتواطؤ السياسة وركونها وشكلية الثقافة وانقطاعها وجهل العامة وانقيادها. القصة تحكي عن صدر الدولة العباسية الأول مع الخليفة المأمون في بغداد والصراع مع بني أمية ودولتهم وما أحاط ذلك من صراع الفكر والدين والسياسة مابين فرق وأفكار ورجال من سنة وشيعة ومعتزلة ومرجئة وخوارج. ما بين متكلمين وأهل رأي ونظر وباطنية وفلاسفة وأصحاب منطق وبرهان أو صوفية وأهل كشف ومشاهدة أوحسبما جاء عند الغزالي والتوحيدي والبغدادي والشهرستاني والراوندي والنوبختي وغيرهم. وكان يحيي ابن أكثم من خاصة المأمون وحاشيته وهو صاحب رأي وثقافة لا تخلو من حيلة وانتهاز ونفعية، فأشار علي المأمون ألا يعلن في السياسة موقفاً محدداً حتي ولو كان ضد معاوية وذويه، ليظل وسطاً بين الجميع ومحسوباً عليهم, وذلك هو دهاء السياسة التي لا ينبغي أن يخلو أمرها من احترام للرأي العام وتقدير انحيازات الناس وخيارات العامة والحرص علي إرضاء رغباتهم. وعلي عكس موقفه كان ثمامة بن الأشرس وهو من هو، واحد من أئمة المعتزلة وأقطابها وإمام أهل الفكر الحر في العصر العباسي الأول وهو القائل لهارون الرشيد "إن أسوا الناس حالاً، عاقل يجري عليه حكم جاهل". وهو هنا في قصة البيهقي عن المأمون يسخر مما عساه يكون من مكانة للعامة عند الخليفة واحترام كما يري يحيي ابن أكثم وكما أشار علي الخليفة. فها هو المثقف الطليعة ثمامة بن أشرس - أو هكذا يفترض أن يكون- لا يعبأ بالعامة ويحرض علي تجاوزهم وعدم الاعتداد بهم والهزء منهم وكيف أنهم بسطاء جهلاء مستلبون. ولم لا أليسوا فاقدي الإرادة مدمني الانقياد لكل من يعرض نفسه عليهم حتي ولو كان بائعاً جوالاً تشي هيئته بعدم الجدارة والتلفيق والكذب، يدعوهم للتداوي بينما أعياه هو الداء نفسه ولا أحد يفكر أو يدقق أو يتذكر أن فاقد الشئ لا يعطيه، ولو كان في دوائه خير لكان أولي أن يشفي به عيني رأسه الخذيلتين. ولعل الأدهي في ذلك والأنكي إدعاؤه بأن هذا الدواء لا ينفع عينيه إذ أنها ما اشتكت إلا بمصر. وكأن داءه ودواءه مرده بلد آخر وموطن آخر وسبب آخر. ورغم رداءة الفكرة وتهاوي المنطق في المعالجة والحجة، إلا أن صاحب الحاجة أرعن، والناس دائما أصحاب حاجات وتطلعات وهوي، ولا كرامة لرجل كانت دائما حاجته وأهدافه ليست بأبعد من نظره تحت قدميه. والمفارقة في قصة المأمون هي أنها وضعتنا بين أكثم والأشرس، بين مثقف ومثقف كلاهما غازل السلطة ونام في أحضانها، وسواء حرضها علي الجماهير أو تحايل عليها إلا أنه شارك في تغييب وعي مواطنيه وآثرالنجاة بنفسه ومصالحه فأقر معهم أن عينه ما اشتكت إلا بمصر. مصر التي يوجع قلبها قبل عينيها تنكر النابهين من أبنائها لأدوارهم ومسئولياتهم في التنوير والإصلاح والنهضة وتكالبهم فحسب علي الاستوزار والتنفذ والحصانة بينما لو أخلصوا وتجردوا لاستطالت قاماتهم أعلي وأرفع. وهنا اسمحوا لي أن أقلب معكم صفحة من "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لجمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي أوردها أيضاً أبو محمد عبد الله بن عمير البلوي في كتابه "سيرة أحمد بن طولون" ، الذي لم يكن صاحب إمارة مصر 245-270 ه ومؤسس دولتها فحسب، بل كان صاحب فكر ورؤية لا تنقصه همة ولا يعوزه عزم، وقد جاءت كلماته في نصح ابنه العباس واضحة بلا التباس إذ يقول له أي بني: "لا تلق بهمتك علي صغار الأمور فيمنعك ذلك من كبارها، ولا تشتغل بما يقل قدره فلا يكون فيك فضل لما يعظم شأنه". وهكذا ربما أكون قد أجبت أسئلة التراث والثقافة وأزمة المجتمع والانتخابات والسياسة. من المجموعة الأولي لمقالات "في الفكر والسياسة 2005".