استأذن القاريء في أن نبتعد معا عن الجدل المحتدم الآن حول اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور وانتخابات الرئاسة وقانون العزل السياسي ، علي أهمية ووجاهة كل منها ،ويصحبني في جولة سريعة بين صفحات كتاب " الثورة الآن .. يوميات من ميدان التحرير " للزميل الروائي والصحفي سعد القرش الصادر أخيرا عن هيئة قصور الثقافة . وعندما ينتهي القارئ من الصفحة 442 سيشعر أن الثورة لايمكن سرقتها ، ومن المستحيل هزيمتها ، علي الرغم من الشواهد العديدة التي تشير الي أن الثورة مستهدفة من الجميع : العسكر والاخوان والسلفيون والفلول ، الكل متربص بالثورة والثوار ، والكل لايخفي كراهيته للثورة والثورة . علي العكس مما يجري الآن ، فإن كتاب سعد القرش يستعيد بأقصي قدر من الصدق تلك الجدارية الأسطورية التي رسمها المصريون خلال 18 يوما من الجنون والعذاب والمتعة والمواجهة والابداع المتواصل والخيال الجديد . المثير للدهشة أن الكتاب في الاصل وقبل الثور ة كان عنوانه " كلام للرئيس قبل الوداع " ش شرع فيه القرش بالفعل ، وجمع أوراقا وقصاصات وملاحظات ، تتضمن مايشبه جردا شاملا لثلاثين عاما من التخريب المنظم . وباستثناء المقدمة والفصل الاول التمهيدي ، فإ ن بقية فصول الكتاب هي يوميات الغضب والثورة منذ يومها الاول وحتي التنحي ، وبعد أن فرضت الثورة نفسها علي المشهد السياسي ، لم يعد هناك مكان لكتابه " كلام للرئيس " فلم يكمله ، وإن كان قد استفاد من مادته ، مثلما استفاد بقوة من مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت حاضرة وساخنة وتسجل الاحداث لحظة بلحظة ، بل ان الكاتب يقرر : " الي الفيسبوك يعود الفضل في هذا الكتاب . منذ انطلاق الثورة حتي نجاحها لم أكتب شيئا ، وكدت أنسي الكثير من التفاصيل ، أو أربطها بسياقها التاريخي اليومي ، ولكن العودة الي تعليقات واشارات سجلتها آنذاك ساعدتني كثيرا في عملية التذكر ، واستدعاء أشياء ماظننت أنني سأتذكرها " من جانب آخر ، يقدم الكتاب مادة وفيرة توضح الدور الذي قام به الصحفيون والأدباء والمشتغلون بالكتابة عموما عشية وأثناء الثورة ، حيث يلقي نظرة سريعة علي عناوين الصحف ذ والقومية منها خصوصا وأعمدة الكتاب ( الكبار !) ورؤساءتحرير الصحف في الايام الاولي للثورة، واللقاء الاخير لمبارك بعدد من الادباء ( الكبار ! ) ، ومن خلال هذه النظرة ش من اليسير علي القارئ أن يدرك أي سيرك كنا نعيش فيه ، فقد ظل هؤلاء واولئك طوال أيام الثورة وحتي قبل التنحي بأيام قليلة ، يتهمون الثوار بالعمالة والتمويل ، بل ويدلّسون منكرين أن هناك ثورة أصلا ، ثم قفزوا قفزات يعجز عن القيام بها بهلوانات السيرك المحترفون ، يتغزلون في الثوار والثورة ويسبون مبارك وعهده . عاش الكاتب أيام الثورة جميعها في الميدان . اتخذ قرارارشخصيا بعدم العودة الي عمله الصحفي الا بعد رحيل مبارك ، ومضي الي الميدان يتظاهر ويشارك ويكتب البيانات ويجمع التوقيعات عليها ، كما قام بدور في حث الكتاب والادباء العرب سواء المقيمين في اوربا أو البلدان العربية المختلفة علي الضغط الاعلامي والسياسي علي النظام المحتضر . موقعة الجمل وجمعة الغضب وجمعة الرحيل ومابينهما شكلّت خلفية الجدارية الاسطورية التي شيدها القرش ، فقد شارك بجسمه في كل الاحداث .. يغادر الميدان في الفجر عادة ويعود في صباح اليوم نفسه .. يصف الكاتب الناس وملابسهم ولافتاتهم وجنونهم وشعاراتهم والتوتر الدائم والحالة النفسية للثوار ، كما لايغفل حملة التشويه الاعلامي الوحشية ضد الثوار ، ويستعيد المزاج الثوري الذي ساد الميدان ، وفي الوقت نفسه يشير الي بدايات استقواء الاخوان المسلمين ، بعد أن تخلفوا في الايام الاولي للثورة خضوعا للقرار الرسمي للجماعة ، وكانوا من اوائل من استجاب لدعوة عمر سليمان ذ نائب مبارك أيامها ذ للحوار ليحصلوا علي أي فتات يتساقط من مائدة نظام يحتضر . وفي النهاية فإن هذه اليوميات بالغة الصدق بقدر ماهي جارحة ، والاكثر أهمية أن كاتبها واحد من الناس وكان يؤدي مايشعر انه العمل ذ ولاأقول الواجب ذ الوحيد الجدير بأيقوم الواحد به ، فقد قرر منذ وقت مبكر الاضراب عن العمل ، وكان شرطه الوحيد للعودة رحيل مبارك ، وبالفعل عاد سعد القرش الي عمله بعد أن شارك مع الملايين في خلع مبارك .