عندما عرفت أن مؤلف هذه الموسيقي حائز علي ثلاثين جائزة وأنه الذي وضع الموسيقي التصويرية لفيلم »الامبراطور الأخير«.. فهمت السبب السبت: ليلة رائعة في دار الأوبرا، شاهدت خلالها فرقة بكين للرقص تقدم دراما »حلم المقصورة الحمراء«. إنها رواية أدبية تحتل مكانة متميزة في الأدب الصيني من تأليف »تساو شيويه تشين«، وكتبها علي مدي عشرة أعوام.. ومن خلال أكثر من أربعمائة شخصية، يقدم المؤلف وقائع الحياة اليومية والعادات الاجتماعية في الصين القديمة. وتدور »حلم المقصورة الحمراء« حول قصة حب بين »باو يوي« و»داي يوي« في مدينة »نان جينج« القديمة. واسم البطل »باو يوي« يعني »الحجر الكريم« لأنه عندما ولد لعائلة أحد النبلاء كان بداخل فمه حجر كريم. وتبادله قريبته »داي يوي« الحب وتعتبره مصدر الحنان الوحيد في حياتها، لأنها فقدت والدتها وهي طفلة. ولكن بطلنا »باوي يوي« يواجه موقفاً صعباً عندما تقع قريبة أخري له، هي »ياو تشاي« ذات الحسب والنسب والجاذبية، في حبه. ويتمرد »باو يوي« علي النظام الإقطاعي لعائلته، ولا يهتم بالوصول إلي أعلي المراكز والرتب العسكرية. لقد كرس نفسه للحب. وكانت محبوبته »داي يوي« هي التي تتفهم مشاعره واهتماماته. وعندما تتخذ عائلته القرار الحاسم باختيار »ياو تشاي« - وليست داي يوي - عروساً له.. تموت داي يوي، بعد أن أصابها الاكتئاب، حزناً عليه. ويحاول »باو يوي« المقاومة، ولكنه في النهاية يترك عائلته ويختار أن يصبح راهباً طوال حياته. الموسيقي التي تصاحب العرض، كانت مفاجأة، فهي تجعلك تحلق في الفضاء الكوني وأنت في حالة قصوي من التعاطف مع شخصيات العمل الفني والحنين إلي الوقوف معهم. وعندما علمت أن مؤلف هذه الموسيقي »سو كونج« حائز علي ثلاثين جائزة مهمة منها جائزة الأوسكار لأفضل موسيقي، وأن المخرج العالمي الشهير »برناردو برتولوتشي« استعان بموسيقاه في الفيلم التاريخي الكبير »الامبراطور الأخير«.. أدركت السبب في روعة تلك الأنغام الساحرة التي سمعتها.. فهو فنان موهوب. الراقصات في هذه الدراما كن أشبه بالفراشات يتحركن في خفة ونعومة وانسيابية وتناغم بحيث تترجم كل حركة جملة من المعاني. شعرت وأنا أتابع الرقص أنني علي أبواب الجنة. إنه أفضل عرض درامي راقص أشاهده منذ سنوات. ومع انتهاء العرض كنت أتساءل: لماذا نتابع فقط كل ما يأتي إلينا من الغرب ولا نلتفت إلي فنون الشرق؟ لعل هذا العرض في دار الأوبرا يكون بداية لإعادة التوازن إلي أذواقنا الفنية. التاجي الأخير الأحد: في الستينيات من القرن الماضي، شاهدت فيلم »الهروب الكبير« من إخراج الأمريكي »جون ستورجس« وبطولة كل من: »ستيف ماكوين وتشارلس برونسون وجيمس جارنر«. وكان الفيلم يعرض قصة حقيقية حول هروب عشرات من ضباط الحلفاء في معسكر اعتقال »شتالاج لوفت الثالث« قرب الحدود الألمانية - البولندية.. داخل أراضي ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. وبلغ مجموع المعتقلين الذين نجحوا في الهروب الجماعي 67 معتقلاً، ولكن ثلاثة منهم فقط تمكنوا من العبور إلي الحرية. أما الآخرون فقد ألقي القبض عليهم، بعد الهرب وقررت القيادة الألمانية النازية قتل خمسين منهم. وقد اقتبست السينما الأمريكية هذه القصة في فيلم »الهروب الكبير« الذي أبدع الممثلون الأمريكيون العمالقة - وعلي رأسهم ستيف ماكوين - في أداء أدوارهم لتعود القصة إلي الحياة. وكان من بين المعتقلين في القصة الحقيقية البريطاني جاك هاريسون، الذي يحمل رقم 89 في قائمة الأسماء التي قررت قيادة المعتقلين هروبهم. وكان ينتظر دوره في الفرار عندما تم اكتشاف عملية الهروب، فاضطر إلي إحراق أوراقه المزورة التي كانت قيادة المعتقلين قد أعدتها لكي يتمكن الهاربون من الإفلات من الرقابة البوليسية في الأماكن التي سيهربون إليها. وأعاد هاريسون ارتداء ملابس المعتقل كأن شيئاً لم يكن. في الشهر الماضي، توفي جاك هاريسون، الطيار في السلاح الجوي الملكي، الذي يعتبر »الناجي الأخير« من محاولة الهروب من المعتقل الألماني. كان هاريسون قد عاد إلي مكان إقامته في موطنه في اسكوتلندا بعد انتهاء الحرب واستعاد وظيفته كمدرس. لفظ جاك هاريسون أنفاسه الأخيرة في دار للمحاربين القدماء قرب مدينة جلاسجو عن 79 سنة. ولم يكن هناك من يودعه من رفاقه القدامي في المعتقل لأنه جميعاً قد ماتوا سواء بعد فشل محاولة الهروب الكبير مباشرة أو... في الفترة التي انقضت منذ نهاية الحرب حتي الآن. ويبقي الفيلم السينمائي شاهداً علي وقائع القصة الحقيقية لكي يخلد حلم الأبطال بالحرية والإصرار علي التمرد علي أسوار المعتقل باعتبار أن ذلك هو واجب كل من يجد نفسه أسيراً أو محتجزاً علي أيدي أعداء الحرية. جبل الجليد العائم الاثنين: شعرت برغبة في التعرف علي آراء شخصيات غير مصرية بمناسبة رحيل المفكر المصري نصر أبو زيد إذ ربما يكون هؤلاء أقدر علي تقييم ذلك الباحث المجتهد أكثر منا.. نحن المصريين. يقول الكاتب اللبناني عباس بيضون: في مؤتمر ثقافي عربي في غرناطة حضره عشرات من المفكرين والمؤرخين والأدباء والنقاد القي أحد أمراء الأسرة الملكية المغربية خطاب الافتتاح ووقف نصر حامد أبو زيد بعد ذلك ليقول انه لا يعترض علي كلمة الأمير ولكنه يتساءل عن مكانها من المؤتمر ذلك أنها ألقيت باعتبارها كلمة الافتتاح، بينما لايمكن اعتبارها كلمة المؤتمر أو أن الموتمر قد عقد في ظلها دون علمه رغم أنه لا يعلم ان المؤتمر كلف الامير بذلك وقال أبو زيد انه اعترض علي الموقف لأن ما جري يشكل تهريبا لإرادة المؤتمر ويقول عباس بيضون ان نصر أبو زيد كان يعرف ان مشروعه لن يكون شيئاً الا اذا صار في عهدة ثقافة كاملة. ويقول حسام عيتاني: »من حق عالم وباحث مثل أبو زيد أن تظل الأسئلة التي طرحها حية بعد وفاته وإذا كانت الاشادة بدفاعه عن العقلانية في مواجهة تيارات الانغلاق والتعتيم الفكري إشادة مستحقة الا أنها تظل قاصرة عن الارتقاء الي حدود متابعة ما باشره الراحل في مشروعه وقد تعرض الرجل لما اسماه هو نفسه »حرب التكفير« منذ عام 3991 ولسخرية القدر تجرع بعضهم الكأس المسمومة ذاتها التي أرغم أبو زيد علي تجرعها وقد حاول اعلاء قيمة العقل وتقديمه علي الخرافة والصور الجاهزة والتصورات الموضوعة في خدمة سلطات اجتماعية وسياسية واذا كانت المشاريع النهضوية الشاملة التي طمح اليها العرب والمسلمون في أزمنة ولت قد أخفقت لأسباب يطول شرحها فإنه من الأهمية بمكان أن يظل دعاة نهضة مثل أبو زيد يعيدون التذكير بالأسئلة. ويقول »عقل العويط« إن أبو زيد لم يكن إنقلابيا أو تخريبيا أو كافراً بل كان مسلما حنفياً تنويرياً يكمل مسيرة أئمة تنويريين ظهروا في مصر ابتداء من عشرينات القرن الماضي وكان الرجل صديقا للعقل ومن هنا بدأت محنته. وهكذا تم تجريد نصر أبو زيد من حقه في ان يملك ويلد ويتزوج وان يرث ويورث وتقرر تطليقه من زوجته ونبذة وطرده من المدينة وتحولت كتبه المقدمة لنيل الترقية العلمية الي أدلة اتهام ضده. وهنا لابد من ان نستعير ما قاله المفكر المصري الدكتور جابر عصفور وهو ان الخطر الذي تكشفه محنة نصر أبو زيد أشبه بما يظهر من جبل الجليد العائم ما خفي منه أعظم مما يظهر.