مازالت سلسلة حوادث القطارات مستمرة بصورة غريبة. فلا يمر يوم من الأيام الا وتطالعنا الصحف بحادثة أو أكثر لأحد القطارات، وأصبح ركوب القطارات مغامرة غير محسوبة لا يعلم احتمالاتها احد، فالداخل مفقود والخارج مولود كما يقول المثل الشعبي!!! الأمر الذي جعل الجميع يتساءلون عن نهاية لهذه الكوارث. خاصة ان هذه الحوادث أصبحت تحدث بشكل متكرر وبمعدلات آخذة في التزايد يوما بعد آخر. ولا يقتصر الأمر علي تكرار الحوادث وتواترها المستمر، إلا أنه يضاف إليها سوء حالة القطارات نفسها التي وصلت الي مرحلة تدعو للرثاء، فالمقاعد محطمة والنوافذة مكسرة ويعلوها الصدأ وتغيب عنها النظافة تماما وكلها أمور أدت الي تزايد الأعطال اليومية بصورة متكررة مما يؤدي الي تكدس الركاب من جهة والي تأخرهم عن أعمالهم من جهة أخري. عموما.. فإنه في كل مرة يقتصر العلاج علي بعض الجوانب الجزئية والمؤقتة المتعلقة بالموضوع ونقصد بها الحديث عن تطوير القطاع او اقالة رئيس هيئة السكك الحديدية وضبط بعض الأمور علي المستوي الأمني، وعلي الرغم من أهمية هذه الخطوات وضرورتها فإنها لا تعالج مكمن الخلل الرئيسي الذي يسبب هذه الكوارث، ونقصد بذلك تحديدا أوضاع هيئة السكك الحديدية باعتبارها إحدي الهيئات التي ينظم إدارتها القانون رقم 152 لسنة 1980. وجدير بالذكر أن مرفق السكك الحديدية يعد الشريان الحيوي الثاني لمصر بعد نهر النيل ويأتي في الأهمية قبل قناة السويس، فإذا كانت الثانية تعد مصدرا للدخل من العملات الأجنبية فإن السكك الحديدية تعد شريان حياة للمصريين، هذا مع ملاحظة أن السكك الحديدية المصرية تعد ثاني أقدم سكك حديدية في العالم اذ بدأ العمل بها في عام 1851. وعلي الرغم من هذه الأهمية فإنها لم تحظ بعد بالاهتمام الواجب ان تحظي به. إذ نري أن تطوير السكك الحديدية يجب ان يأتي في أولي أولويات الحكومة المصرية. وينبغي أن تنشغل به جميع الهيئات والمنظمات الحكومية والأهلية. وقبل التعرض لهذه المشكلات تجدر بنا الإشارة الي ان الهيئة يعمل بها نحو 79410 موظفين وعمال، مع ملاحظة التدني الشديد في مرتبات العاملين بها خاصة السائقين.. ناهيك عن الظروف التي يعملون بها وما يتعرضون له من مخاطر بدنية وصحية جسيمة تتطلب سياسة علاجية معينة وهو ما لا يتم حتي الآن. وتعاني هيئة السكك الحديدية من عدة اختلالات أساسية تبرز في اختلالات في اقتصاديات تشغيلها ومراكزها المالية وهو ما يتمثل في اختلال التوازن بين التكاليف والأسعار، وقصور الموارد عن تغطية الاستخدامات فلا تزال الهيئة غير قادرة علي تغطية مصروفاتها الجارية من ايراداتها الجارية مما يؤدي الي ارتفاع عجز العمليات الجارية. الأمر الذي أدي الي ازدياد العجز المرحل سنويا. هذا ناهيك عن تآكل الأصول الحقيقية وارتفاع قيمة مصاريف الصيانة وتهالك وتقادم أسطول العربات وتناقص حركة البضائع عبر السكك الحديدية، يضاف الي ما سبق وجود مجموعة كبيرة وضخمة من التخفيضات والتصاريح المجانية والامتيازات وعدم الاستغلال الأمثل لما تملكه الهيئة من أصول، وعدم تحصيل المديونيات المستحقة لها علي الغير، مع تحميل الهيئة بالعديد من الأعباء الإضافية، وأخيرا وليس آخرا بعد الهيئة عن الرقابة الحقيقية. وفي هذا السياق تم وضع العديد من خطط التطوير المستقبلية لهذا القطاع، وتكلفت ملايين الجنيهات، ولكنها لم تغادر الادراج حتي الآن. عموما فإن الوضع السييء الذي يوجد عليه مرفق السكك الحديدية- منذ فترة طويلة- يتطلب الإسراع بالعلاج؛ لأنه لا يؤدي فقط الي الكثير من الخسائر المادية، ولكنه يؤدي بالأساس الي الإضرار بأغلي ما تملكه مصر من ثروات وهي البشر. من كل ما سبق نري أن أفضل طرق تطوير الهيئة هو تحويلها الي شركة قابضة يتبعها عدة شركات تابعة كل من مجال واختصاص معين. علي أن تقوم الشركة القابضة برسم السياسات العامة للمرفق ككل- بما في ذلك مترو الأنفاق- في ضوء الخطط التنموية للدولة، وتضع الآليات الكفيلة بتحقيق هذه السياسات، ويناط بها تحقيق الاستخدام الأمثل للأصول غير المستغلة المملوكة للهيئة وهي كثيرة ومتنوعة مثل الأراضي المقدرة بنحو 192 مليون متر مربع، فعلي الرغم من إنشاء الشركة المصرية لإدارة مشروعات الهيئة فإنها لم تحقق أية نتائج ملحوظة حتي الآن، وهناك أيضا الورش والمطابع وغيرهما، مع رقابة وتقييم أداء الشركات التابعة المقترح إنشاؤها علي النحو التالي: الشركة التابعة لإدارة مترو الأنفاق، وتتولي كافة الأمور المتعلقة بهذا المرفق الهام والحيوي والذي وصل الي حالة يرثي لها برغم حداثته النسبية وأصبح يتطلب هو الآخر جراحة عاجلة تعيده الي سابق عهده بعد أن تكررت المشاكل والأزمات. وإنشاء شركة لتصنيع قطع الغيار وإنتاج القطارات كما كان مخططا سابقا، ولم يتم حتي الآن. وفي هذا السياق أيضا يمكن إنشاء شركة للصيانة وإدارة ورش الهيئة تنقل إليها العمالة الفنية المدربة وتتولي القيام بهذه العمليات. وشركة تابعة لنقل البضائع عبر السكك الحديدية وهي مسألة غاية في الأهمية ليس فقط بالنسبة لهيئة السكك الحديدية، ولكن وهو الأهم بالنسبة للمجتمع المصري ككل. وهكذا فإن إنشاء شركة تابعة لهذا الغرض بالتحديد سوف تسهم في إعادة الأمور الي مسارها السليم. بالإضافة الي ما سبق يتم إنشاء الشركة التابعة لنقل الركاب وتتولي ادارة هذه العملية بطريقة اقتصادية سليمة وفقا لحسابات التكلفة والعائد، وبمعني آخر توفير المرونة في نظم التسعير بما يتفق مع التغير في التكلفة والأرقام القياسية للأسعار، ووفقا للدراسات الخاصة باقتصاديات التشغيل. ويمكن أن تتم هذه العملية دون التأثير علي محدودي الدخل بعدة سبل أولها إتباع سياسة التمييز السعري وفقا لشرائح الاستهلاك والقدرة المالية للمستهلكين علي أن يتم ذلك من خلال الموازنة العامة للدولة، وليس من خلال الهيئة أو الشركة التابعة المقترحة، مثلما يحدث الآن مع دعم المنتجات البترولية. أما فيما يتعلق بالتخفيضات والتصاريح المجانية والامتيازات التي تقدمها الهيئة لجهات المجتمع المختلفة كالشرطة والقوات المسلحة والطلاب والعمال وغيرهم، فإن هذه المسألة يجب أن توضع في إطارها الصحيح والسليم عن طريق منح التذاكر المخفضة لهذه الفئات الي جهاتهم المعنية وليس الأشخاص. فالأصل في الإعفاء انه منح لتسهيل أداء الأعمال التي يقوم بها هؤلاء، أما ما دون ذلك فيجب أن تعامل بالطريق العادي، فمثلا يمكن أن تحصل وزارة التعليم علي احتياجاتها السنوية الخاصة بأعضاء هيئة التدريس بالأسعار المدعمة علي أن تقوم هي بتوزيعها وفقا للمهام العلمية المطلوبة، وهو ما ينطبق علي كافة الفئات الأخري. وفي هذا السياق أيضا يقترح أن تنشأ شركة تابعة لإدارة وتشغيل بعض الخطوط ذات الطبيعة الخاصة إما خطوطا سريعة أو خطوطا استثمارية لخدمة مناطق سياحية أو صناعية معينة. وفيما يتعلق بالخدمات التي تقدم للركاب علي القطارات مثل المشروبات والمأكولات وعلي الرغم مما هو معمول به حاليا من إسناد هذا النشاط الي شركة قطاع خاص، فإننا نلحظ انها لم تحقق الا إيجارا سنويا يصل الي عشرة ملايين جنيه، في حين أنها يمكن أن تحقق أكثر من ذلك بكثير. اذ إنها تدير الخدمات المقدمة في المحطات المختلفة، وهو ما يحقق إيرادات لا بأس بها في هذا المجال. وهذا الاقتراح يحقق العديد من المزايا أولها انه يضمن ادارة المرفق بطريقة اقتصادية سليمة، وثانيها يقضي علي أوجه الإسراف وضبط الإنفاق وتفعيله. مع تعميق المحاسبة عن الأداء علي مستوي مراكز المسئولية، كما يتيح الاهتمام بالصيانة واستغلال الطاقات العاطلة. مع التخلص من الأنشطة غير الاقتصادية. ويساعد علي فض التشابكات بين الهيئة والخزانة العامة للدولة. وأخيرا يتيح الفرصة للقطاع الخاص الجاد للمشاركة في هذا النشاط الحيوي والمهم. * نقلا عن جريدة "الأهرام"