هل تريدون أن تعرفوا درجة الشر التي بلغها ''رادوفان كاراديتش''، زعيم صرب البوسنة السابق الذي اعتقل الأسبوع الماضي، لما ارتكبه من جرائم حرب في البلقان خلال السنوات الأولى من عقد التسعينيات؟ لإشباع فضولكم ما عليكم سوى قراءة النعي الذي نُشر مؤخراً لشخصية أخرى هي ''دينكو ساكيتش'' الذي أدين بارتكاب جرائم حرب في البلقان إبان الغزو النازي في الحرب العالمية الثانية وبالتزامن مع مأساة المحرقة اليهودية. ولنقارن أيضاً سلوكيات ومعتقدات هؤلاء المجرمين، بالإضافة إلى طبيعتهم النفسية التي دفعتهم الى اقتراف أسوأ الجرائم في أماكن وبلدان مختلفة. وأول ما يصدمنا في هذه الفئة من المجرمين هو عدم إبدائهم لأدنى قدر من الندم على الفظائع التي ارتكبت باسمهم، مصرين على صواب أفعالهم، وعدالة قضيتهم حتى آخر لحظة دون أن يرف لهم جفن. وإذا كان مجرمو الحرب يمثلون بالنسبة لنا الشر المطلق، فإنهم يحتفظون بصور ناصعة حول أنفسهم ولا يداخلهم شك في بشاعة ما اقترفوه. هذا التناقض بين نظرتنا نحن لهم، ونظرتهم هم لأنفسهم، هو ما يفسر ماهية الشر ويسلط بعض الضوء على الزوايا المعتمة داخل النفس البشرية. فقد كان ''كاراديتش'' مسؤولاً عن حملة عسكرية انتهت بقتل ما لا يقل عن 200 ألف بوسني مدني، من المسلمين والكروات، فضلاً عن طرد 1,5 مليون منهم واغتصاب حوالي 20 ألف امرأة، وكل ذلك تحت مسمى ''التطهير العرقي''. ولم يكن الهدف الذي دفعه للإيغال في جرائمه سوى إنشاء جمهورية صربية مستقلة في البوسنة، متذرعاً بحماية الحقوق التاريخية والجغرافية لمجموعة بشرية عانت في السابق من التهميش والظلم. والأكثر من ذلك، اعتبر ''كاراديتش'' أنه بذلك يسدي خدمة لغير الصرب في البوسنة بجمعهم مع إخوانهم من نفس العرق في مكان آخر داخل يوغوسلافيا. وبعد التوقيع على اتفاقية ''دايتون'' التي أنهت حرب البلقان، توارى الزعيم الصربي عن الأنظار حتى اعتقل في الأسبوع الماضي بالعاصمة بلجراد ورحّل إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي لينال جزاءه. ومع أنه غيّر اسمه ومظهره الخارجي، ظل يعيش علناً ويمارس حياته بشكل طبيعي، حيث أطلق لحيته وأطال شعر رأسه وانتحل شخصية مختص في الطب البديل ظهر في أكثر من مناسبة على شاشة التلفزيون. وبكل المعايير ظل ''كاراديتش'' يؤمن بصحة مواقفه وعدالة قضيته التي من أجلها تسبب في إزهاق أرواح مئات الآلاف من الأبرياء، فكان يعزف أحياناً على قيثارته بإحدى المقاهي في بلجراد، وينشد أغاني تحتفي بالتاريخ الصربي وبالوطنية الضائعة، بينما تعلو الحائط صورة قديمة له بمظهره الأصلي. فكيف لطبيب نفسي وشاعر يدعي الثقافة أن يتحول إلى وحش؟ وكيف أصبح في أعين الناس الذين عرفوه في صورته المتخفية، ولم يطلعوا على ماضيه المشين، مثالاً للشخص الطيب الذي يسعى إلى مساعدة الناس وتطوير موقعه الخاص على الإنترنت؟ وإذا كنا عاجزين عن تقديم إجابات حاسمة لتلك الأسئلة المحيرة، فإننا نستطيع مع ذلك التقاط بعض الإشارات المفيدة من خلال قراءة النعي الذي نشر في اليوم التالي لاعتقال ''كاراديتش'' في صحيفة ''نيويورك تايمز'' للزعيم الصربي الآخر المتهم بجرائم حرب هولوكوست، أقصد ''ساكيتش''. فخلال تلك الفترة التاريخية الرهيبة أدار ''ساكيتش'' معسكر اعتقال في كرواتيا التي كانت حينها حليفة لألمانيا النازية. وفي ذلك المعسكر أشرف على قتل عشرات الآلاف من الصرب واليهود والغجر، باسم نظام ''أوستاشي'' الكرواتي. وحسب بعض التقديرات تجاوز عدد القتلى مئات الآلاف. الأكثر من ذلك أن الوحشية التي مورست في المعسكر تحت قيادة ''ساكيتش'' الذي كان يطلق عليه ''جاسينوفاك''، صدمت حتى المسؤولين في ألمانيا النازية الذين شبهوه لدى زيارتهم له، بالجحيم الذي تحدث عنه ''دانتي'' في الكوميديا الإلهية. وعرف عن ''ساكيتش'' استخدامه لسكين خاص صممه لجز الأعناق، حيث تولى بنفسه عملية التعذيب، ونُقل عن أحد الناجين أنه شاهد ''ساكيتش'' يعدم مئات النساء والأطفال اليهود. لكن بعد الحرب العالمية الثانية فر ''ساكيتش'' إلى الأرجنتين، حيث عاش حياة علنية باسمه الحقيقي وعمل في صناعة النسيج، بالإضافة إلى مشاركته في أنشطة الجالية الكرواتية. وفي علامة أخرى على أنه لم يندم على ماضيه، أشرف على إدارة معسكر للفاشيين الكروات في الأروجواي، وعندما زار الرئيس الكرواتي ''فرانجو تودجمان'' الأرجنتين عام ،1994 صرح ''ساكيتش'' لإحدى المجلات الكرواتية بأنه ''سيكرر كل أفعاله لو رجع به الزمن إلى الوراء''، بل أضاف أنه يتمنى لو لقي المزيد من الصرب حتفهم، قائلاً ''إني أنام مثل طفل صغير''. وحتى عندما رُحل إلى كرواتيا قبل ثماني سنوات، وأدين بجرائم الحرب التي ارتكبها خلال الحرب العالمية الثانية، صفق بيديه وضحك لدى سماعه الحكم. واللافت أنه نُقل عن جيرانه في الأرجنتين بأنه كان يشذب عشب منزله ويعاملهم بكثير من الاحترام. لذا لا يساورني أدنى شك في أن ''كاراديتش''، جزار البوسنة، لن يبدي أي شعور بالندم بعدما تنطق المحكمة في لاهاي بالحكم، وعلى غرار حليفه السابق ''ميلوسوفيتش''، من المتوقع أن يعبر عن إيمانه العميق بما كان يقوم به من بطش ضد الآخرين. لكن علينا ألا نفاجأ بذلك، إذ بالإضافة إلى ''ميلوسوفيتش'' و''ساكيتش''، شهد التاريخ مجرمين أكثر قسوة مثل هتلر الذي كان نباتياً ويحب الحيوانات، وأحد أشد المؤمنين بصواب الطريق الذي اختاره. وهكذا وبدلاً من مقاربة الشر من ناحية فلسفية يتعين النظر إليه على أنه انحراف نفسي، بحيث أثبت البشر قدرتهم الكبيرة على إقناع أنفسهم بصواب ما يفعلون مهما بلغت درجة بطشهم.