لم يكن من الممكن تجاهل تحذير «جوناثان ايفانز« رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية البريطانية بشأن «قيام تنظيم القاعدة بصورة منهجية ومحددة بتدريب شباب وأطفال بريطانيين على تنفيذ هجمات إرهابية في الداخل، وأنه تم رصد أكثر من ألفي شخص متواطئين مع الإرهاب وأن عددهم في تزايد مستمر«، فرغم أنه لم يأت بجديد وكذلك لم تحمل معلوماته أي مفاجأة، فإن تحذيراته أثارت العديد من علامات الاستفهام حول الهدف من ورائها ومغزى توقيتها وإلى أي مدى تباينت مع النهج الحكومي الذي اتبعه «براون« منذ توليه السلطة في يونيو .2007 بداية.. يبدو أنه لم يكن مصادفة أن يأتي تقرير «ايفانز« حول الأوضاع الأمنية في البلاد قبل يوم واحد من خطاب الملكة أمام البرلمان، فالواضح أنه استهدف تأكيد مطالب الحكومة البريطانية بأهمية إصدار تشريعات جديدة أو تعديل التشريعات القائمة والمتعلقة بالإرهاب ومكافحته، وهو ما تجسد في خطاب الملكة التي أشارت إلى أنه من ضمن خطة الحكومة تعديل التشريعات المتعلقة بالإرهاب لتصبح أكثر حدة وشدة وحسمًا في محاربة الإرهاب. والمتابع للمشهد السياسي البريطاني يستطيع أن يلحظ أن هذا النهج ليس بجديد، فالسياسة التي اتبعتها حكومة «براون« في محاربة الإرهاب لم تختلف عما كان متبعًا في عهد «بلير«، بدءًا بطرح تحذيرات من التهديدات الإرهابية التي يزعم أنها تواجه بريطانيا، والتي برزت واضحة فيما أعلنه «ايفانز« عقب توليه المنصب في أبريل 2007 أن الاستخبارات البريطانية تتعقب 1600 شخص ينتمون إلى 200 مجموعة أو شبكة إرهابية، بل أشار إلى أن «التدفق الثابت للمجندين الجدد في قضية التطرف قد تضاعف إلى 2000 شخص«، وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بقوله: إن هذا التهديد «الذي يفرضه المتطرفون الذين يستوحون أعمالهم من القاعدة يعد أكثر التهديدات خطورة على بريطانيا على مدار تاريخ الأجهزة الأمنية الذي دام 98 عامًا «. وعلى الرغم من اختلاف سياسة حكومة «براون« في تعاملها مع الأزمة الأمنية التي واجهتها في بداية توليها السلطة بإتباعها نهجًا جديدًا عكس تحولاً في أسلوبها في التعامل مع الأزمات، حينما تخلت عن سياسة الغموض التي اتسم بها رد فعل حكومة «بلير« إزاء الأزمات المشابهة - من خلال اتباعها الأسلوب الهادئ في التعامل معها، وهو ما بدا واضحًا آنذاك في تصريحات «براون« ووزيرة داخليته «جاكي« التي أكدا فيها الحاجة إلى الهدوء، وتشديدهما في الوقت ذاته على ضرورة كسب عقول وقلوب المسلمين في بريطانيا، فإن حكومة براون أبدت اهتمامًا أكبر بالناحية القانونية يفوق بصورة كبيرة الوضع في عهد «بلير« كما استمرت في فرض مزيد من الإحكام والصرامة على الأنظمة الأمنية والرقابية للحيلولة دون غياب أي مشتبه فيه عن أعين الأجهزة الأمنية. وعلى هذا الأساس، يمكننا القول: إن النهج البريطاني في التعامل مع الأزمات الداخلية وفي مقدمتها مكافحة الإرهاب في عهد «براون« لم يشهد تحولاً جذريًا أو حتى محدودًا، وهو ما يؤكد أن ثقل التركة التي ورثها الأخير من «بلير« جعلته عاجزًا عن إجراء تحولات في السياسة البريطانية. ويتجسد ذلك إذا نظرنا إلى الموقف من الإرهاب وسياسة حكومته في مكافحته، حيث نجد أنها اتبعت الأسلوبين ذاتهما اللذين اتبعهما «بلير« والمتمثلين في التوسع في إصدار تشريعات وقوانين لمكافحة الإرهاب، وتأكيد أهمية التواصل مع الجالية الإسلامية والعمل على دمج أفرادها في المجتمع، وإن ظل هذا الجانب حبيسًا للإطار النظري أكثر منه مطبقا على أرض الواقع، حيث طالبت بإدخال تعديلات على قوانين الإرهاب.. وجاءت تصريحات «ايفانز« في هذا الشأن لتؤكد هذا الأمر، إذ استعرض فيها مزايا التعديلات القانونية المقترحة بقوله: «إن مشروع القانون سيسهل على الشرطة وأجهزة المخابرات تبادل البيانات والسماح بمواصلة استجواب المشتبه فيهم في قضايا الإرهاب بعد توجيه اتهامات إليهم«، ويتأكد هذا النهج كذلك فيما أعلنه «براون« من قبل في أول خطاب له أمام البرلمان في 25/7/2007 حول سياسة الحكومة في مكافحة الإرهاب، حيث كشف عن أكثر من بعد في هذا الصدد، تمثل أهمها في: * زيادة فترة الاحتجاز لأكثر من 28 يومًا؛ حيث يقترح أن تكون الضعف (56 يومًا). * إدخال مقترحات جديدة على قوانين موجودة من أهمها: السماح بالمزيد من تبادل المعلومات بين الهيئات الحكومية فيما يخص المتهمين بتورطهم في قضايا الإرهاب، وكذلك استجواب المتهمين بقضايا الإرهاب حتى بعد توجيه التهم إليهم من أجل الحصول على المزيد من المعلومات. * اقتراح قوانين جديدة لتقوية الإجراءات الأمنية في المطارات والموانئ البريطانية، ومن ذلك: إنشاء قوة أمن حدودية جديدة، وفرض آليات تفتيش إلكترونية للمسافرين، ومنح تأشيرات سفر متطورة تحمل بصمات المسافرين. ويذكرنا هذا بما أعلنه «بلير« قبيل شهر من تركه منصبه عزم الحكومة إدخال تشريعات جديدة لمكافحة الإرهاب من شأنها منح الشرطة صلاحية الحصول على معلومات عن مسائل لها علاقة بالتحقيقات حول النشاطات الإرهابية من دون الحاجة إلى الاشتباه في أن جريمة وقعت أو ما يعرف بحق «التوقيف والاستجواب«، حيث يمنح هذا الحق الشرطة سلطة توقيف الأفراد وطلب الاطلاع على بطاقات هويتهم واستجوابهم بخصوص تحركاتهم والوجهة التي يقصدونها، كما يمنحها الحق في توجيه اتهامات للموقوفين وفرض غرامة عليهم تصل إلى خمسة آلاف جنيه إسترليني في حالة رفضهم الامتثال للأوامر والإجابة عن الأسئلة الموجهة إليهم.. ويذكر أن البرلمان كان قد رفض هذه الاقتراحات من قبل عام 2005، حينما طالبت الحكومة بمد فترة احتجاز المتهمين بقضايا الإرهاب من المدة الحالية وهي 28 يومًا إلى 90 يومًا. واستكمالاً للمنظومة.. تم التنويه بأهمية التواصل مع الجالية الإسلامية البالغ عددها ما بين 1.6 إلى مليوني شخص، فقد أعلن «براون« في بداية توليه السلطة في أكثر من مناسبة أهمية «مخاطبة الشبان المسلمين البريطانيين ومناقشتهم«، وذكر في أول خطاب له أمام البرلمان أن الجهود المبذولة في مواجهة التطرف والإرهاب تشمل: - دعم دروس المواطنة لشيوخ الدين ودروس اللغة الإنجليزية. - تمويل قناة عربية لهيئة الإذاعة البريطانية وأخرى باللغة الفارسية للشعب الإيراني. وتأكد هذا النهج صراحة فيما أعلنه مستشار الأمن القومي الجديد «الان ويست« بأن «أزمة الإرهاب لا تتعلق بالجالية المسلمة، ولكن بعناصر خارجية تتسم بالعنصرية والسعي وراء السلطة والمال وأحلام الخلافة الإسلامية«، مشيرًا إلى أن استراتيجية الحكومة في مكافحة الإرهاب «يجب أن تركز في جهود الوقاية تفاديًا لانسياق الشبان المسلمين إلى التطرف.. وأن ذلك لا يتم في يوم واحد«، ومضيفًا أنه يعتقد أن ذلك سيستغرق من 10 إلى 15 سنة، ويزداد هذا الموقف وضوحًا في قوله: «إن الإرهابيين ألحقوا ضررًا بالغًا بواحد من أعظم الأديان في العالم، وهو الدين الذي يدعون أنهم يؤيدونه« في إشارة صريحة إلى الإسلام. ولم يختلف هذا النهج عما اتبعته حكومة «بلير«، حيث أعلنت وزيرة الجاليات والحكومة المحلية «هازل بليرز« قبل شهرين من ترك الأخير منصبه في أبريل 2007 خطة أطلقت عليها «خطة لكسب قلوب المسلمين وعقولهم« دعت فيها إلى محاربة التطرف بين أفراد الجالية المسلمة في بريطانيا، وضمنتها حملة عملية من ست خطوات قُدرت كلفتها ب 6 ملايين جنيه إسترليني، حيث شملت مشروعات عديدة، منها: - -إقامة العديد من المنتديات التي تهدف إلى مناهضة التطرف في عدد من المدن البريطانية،- وتدريب أئمة المساجد من أجل مواجهة القلق السائد من تنامي عدد المتطرفين الأجانب، -وتنظيم برامج تسمح باشتراك تلاميذ المدارس الإسلامية في مشاريع مشتركة مثل الموسيقى والدراما مع نظرائهم من المدارس البريطانية الأخرى،- والقيام برحلات مشتركة. وهكذا، يمكننا القول: إن سياسة الترويع التي برزت في تصريحات «ايفانز« في مؤتمره الصحفي عن الأوضاع الأمنية في بريطانيا وما تتعرض له من تهديدات إرهابية، كان هدفها الأول هو إعداد الرأي العام والمجتمع البريطاني لتقبل المزيد من القيود على الحريات المدنية بإصدار تشريعات أكثر صرامة لمكافحة الإرهاب، وهو النهج ذاته الذي كان قد سار عليه «بلير« وحكومته؛ حيث رأت حكومة «براون« أن القضاء على الإرهاب ومواجهته يكونان عن طريق وضع تدابير أكثر قهرية متجاهلة الأسباب الحقيقية وراء التطرف في المجتمع البريطاني، ومتجاهلة في الوقت ذاته أن تلك السياسة هي التي أدت إلى تدمير سمعة حكومة «بلير« ودفعته إلى تقديم استقالته، في حين كان يجب عليها أن تتعامل مع جذور المشكلة من خلال الوقوف على الأسباب والعوامل الأساسية التي تقف وراء تطرف بعض الشباب المسلمين، والتي يمكن أن نوجزها في عوامل ثلاثة: - الأول: يتمثل في الفقر والتهميش اللذين تعانيهما الأقليات بصفة عامة والإسلامية منها على وجه الخصوص، فقد كشف تقرير مؤسسة «جوزيف راونتري« الصادر في أوائل هذا العام (2007) عن واقع مذهل حول الحرمان والفقر اللذين تعانيهما الأقليات الإثنية مقارنة بالبريطانيين البيض (40% مقابل20%)، مشيرًا إلى أن المسلمين يعانون بصفة خاصة هذا الوضع المأساوي، إذ يعيش 65% من البنغال تحت خط الفقر مقابل 55% من الباكستانيين، وقد أرجع التقرير أحد أسباب الفقر إلى الأجور المتدنية وقلة فرص العمل0 حيث ذكر أن نسبة 20% فقط من البنغال و30% من الباكستانيين يعملون بدوام كامل، مقابل 50% من البريطانيين البيض. وهو ما يفرض على الحكومة البريطانية بدلاً من تخصيص ميزانيات لكسب العقول والقلوب فقط، أن تخصص ميزانيات يكون الهدف منها تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيش فيها الشبان المسلمون، والعمل على استيعابهم في مجالات عمل تبعدهم عن التطرف. - الثاني: يتمثل في وجود أخطاء في الاستراتيجية البريطانية لمكافحة الإرهاب، وهو ما يتضح من خلال تعاملها مع الجاليات الإسلامية بأسلوب معاملة «المنحرفين نفسه«، حيث تعتمد المخابرات في جمع المعلومات على رؤية تقييمية تستند إلى تقارير المتابعة للآلاف من رجال الشرطة الذين تعج بهم الأحياء السكنية التي تقطنها الجالية الإسلامية الكبيرة، التي تستند في كثير من الحالات إلى المظهر الخارجي للأشخاص أكثر منها إلى العمل الاستخباراتي، الأمر الذي يفقد هؤلاء الإحساس بالمعاملة الإنسانية كغيرهم من أفراد المجتمع، فيتحولون بطبيعة الحال إلى ناقمين على النظام، وهو ما يتطلب إعادة النظر في تلك الاستراتيجية ومعالجتها بحيث يُراعى فيها أكبر قدر من الشفافية في عملية صنع السياسات، وإقرار آلية للمساءلة، وضرورة التعامل مع القضايا التي تتسبب في الشعور بالاستياء السياسي داخليًا وخارجيًا، من منطلق المواجهة عبر الحوار، بما يؤدي إلى بناء الثقة بين الحكومة والجالية الإسلامية. - الثالث: يتمثل في اتباع الخط نفسه الذي اتبعته حكومة «بلير« فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، حيث لعبت دورًا مهمًا في زيادة العنف والإرهاب، وهو ما كشفته التقارير الصادرة عن المؤسسات والمراكز البحثية البريطانية، وكان تقريران صادران في أوائل أبريل 2007 آخره0 الأول صادر عن معهد «أكسفورد للأبحاث« بعنوان «ما وراء الإرهاب«، جاء فيه أن الحرب على الإرهاب شجعت على العنف، لأنها تركز في حلول عسكرية بدلاً من أن تتصدى لجذوره، محذرًا من أن العمل العسكري المستمر الذي تقوم به بريطانيا وأمريكا قد أدى إلى زيادة احتمالات وقوع أعمال إرهابية جديدة على غرار أحداث 11 سبتمبر في أمريكا، وموصيًا بتقديم مساعدة قوية لإعادة إعمار العراق وأفغانستان، وكذلك إغلاق معتقل جوانتنامو، والالتزام بحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وإقامة دولتين منفصلتين. أما الثاني فقد صدر عن منظمة «أوكسفام للتنمية والإغاثة«، وحمل عنوان «سياسة خارجية نزيهة«، وأكد أن مشاركة بريطانيا في الحرب على العراق قد أضرت بقدرتها على أن تكون قوة دولية، ودعا إلى مراجعة سياستها الخارجية وإعادة صياغتها، لتشمل العمل على حماية المدنيين، وتحدي انتهاكات قانون حقوق الإنسان، والسعي لإقامة علاقات أكثر عدلاً مع الدول النامية وتقوية المؤسسات المتعددة الجنسيات حتى تستطيع حماية الأبرياء. مما سبق يمكننا القول: إن إرث «بلير« مازال حاضرًا، فلم تنته محاولاته لتحويل الحرب على الإرهاب إلى حالة طوارئ مقنعة في بريطانيا من خلال إصدار تشريعات أكثر صرامة لمكافحة الإرهاب من شأنها فرض مزيد من القيود على الحريات؛ حيث جاءت تصريحات «ايفانز« ومن قبله رئيس الوزراء لتؤكد استمرار سياسة «بلير« ونهجه في هذا الصدد، فحكومة «براون« لم تستفد من فشل تلك السياسة؛ وهو ما برز واضحًا فيما كشفته مؤخرًا محاكمة خمسة من الشبان المسلمين الذين أدينوا في قضية التآمر على نسف مركز تسوق وناد ليلي في أواخر أبريل 2007، حيث كشفت القضية عن أن الذين أدينوا فيها يرتبطون ارتباطا وثيقا مع اثنين من الانتحاريين الخمسة الذين قتلوا 52 شخصًا في قطارات وحافلات لندن في يوليو 2005، مما يعني فشل الاستراتيجية الأمنية لحكومة «بلير« وسياستها في مكافحة الإرهاب. خلاصة القول: إن حكومة «براون« مطالبة ببذل المزيد من الجهود للتعامل مع المشكلة بصورة أكثر واقعية ومغايرة للنهج السابق بالوقوف على جذورها ومحاولة علاجها، من خلال بذل جهود في التعامل مع حالة الإحباط والشعور بالغربة بين الكثيرين من الشبان البريطانيين المسلمين، بما يتطلبه ذلك من تقديم المساعدة لهم في الحصول على وظائف وفرص عمل تساعدهم على الاندماج في المجتمع، هذا من جانب، وعلى الجانب الآخر عليها كذلك إدراك أن السياسة الخارجية تلعب دورًا مهمًا في إغضاب المسلمين، وأنه لا يمكن فصل وجهات نظرهم عما يحدث في العراق وفلسطين وأفغانستان، كما عليها أن تعي في النهاية أن استئصال الإرهاب ومحاربته لا يأتيان من خلال سن التشريعات والقوانين، وإنما من خلال عمل جماعي تشارك فيه الحكومة والطوائف الدينية والمجتمع المدني.