تعيش العاصمة الاميركية منذ أسابيع أجواء ترقب حذر مع اقتراب ما يعتبره البعض 'لحظة الحقيقة'، أي الشهادات التي سيدلي بها قائد القوات الاميركية في العراق الجنرال ديفيد بترايوس والسفير الاميركي في بغداد رايان كروكر أمام لجان الكونجرس المختصة بدءا من اليوم . من المتوقع ان تساهم وبشكل بارز في تحديد اطار السجال السياسي في واشنطن وفي البلاد ككل حول طريق المستقبل في العراق، ربما حتى نهاية ولاية الرئيس جورج بوش. وتأتي هذه الشهادات في نهاية حملة سياسية اعلامية مكثفة استمرت لثلاثة أسابيع قام خلالها الرئيس الاميركي وكبار مساعديه بالحديث عن شهادات بترايوس وكروكر على أنها مفصلية أو نقطة تحول في حرب تعارضها أكثرية الاميركيين، حيث يشدد البيت الأبيض على ضرورة ابقاء القوات الاميركية في العراق على مستوياتها الراهنة (168 ألف عسكري) حتى بداية فصل الربيع المقبل، واعطاء العراقيين المزيد من الوقت لتحقيق الاصلاح والوفاق السياسي. خيارات بوش مدير برامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية في واشنطن جون أولترمان كشف ل'القبس' عن ان حملة الرئيس بوش تهدف عمليا الى انقاذ رئاسته. ويتابع أولترمان 'اذا نجح الرئيس في ذلك، يصبح في موقع يسمح له بأخذ المبادرة في الأشهر القليلة المقبلة، واحتواء ضغوط الديموقراطيين عليه. ولكنه اذا اخفق، فسيزداد ضعفا ويأخذ حزبه الى هزيمة بشعة في انتخابات 2008'. ويشير اولترمان الى ان احد أهداف بوش في هذا الوقت هو اقناع الكونغرس باقرار ميزانية طارئة جديدة لتمويل الحرب في 2008 بقيمة خمسين مليار دولار. المشككون المشككون في جدوى أو بنجاح الخطة الأمنية الاميركية (قرار بوش في يناير الماضي نشر 30 ألف عسكري اضافي) على المدى البعيد، يقولون ان شهادات بترايوس وكروكر لن تغير من حيث النوعية من مواقف معارضي أو مؤيدي سياسة الرئيس بوش في العراق أو خطته الأمنية فكل طرف يركز على ما يناسبه سياسيا في تقويمات بترايوس وكروكر. وبعد ان يشير الكاتب جورج باكر، وهو من أكثر الكتاب الاميركيين الماما بالوضع العراقي، الى انه من السهل تلخيص مضمون الشهادتين مسبقا: 'تقدم عسكري، وجمود سياسي بين العراقيين، ونحتاج الى المزيد من الوقت'، يضيف في مقال له في مجلة 'نيويوركر' ان الشهادتين هما من 'نوع الأحداث ذات الأهمية المحدودة التي اعتمدت عليها الحكومة الاميركية لتعزيز الدعم للحرب مثل اعلان اكمال المهمة أو مقتل عدي وقصي صدام حسين أو اعتقال صدام حسين أو نقل السيادة الى العراقيين أو الدورات الانتخابية الثلاث أو مقتل أبو مصعب الزرقاوي'. ويتابع باكر في مقالته ان 'كل معلم جديد على الرغم من غموضه يسمح للحكومة بتفادي التفكير في المستقبل...'. أبرز الشهادات وتعتبر شهادة بترايوس من أهم وابرز الشهادات العسكرية التي تقدم أمام لجان الكونجرس ربما منذ شهادة الجنرال وليام ويستمورلند قائد القوات الاميركية في فيتنام حين استدعاه الرئيس ليندون جونسون في ابريل 1967 لتقديم شهادة في جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس ليتحدث فيها عن التقدم والنجاحات في الحرب التي كانت تواجه معارضة قوية من الاميركيين آنذاك. وسوف يمثل بترايوس وكروكر ظهر اليوم أمام جلسة مشتركة للجنتي القوات المسلحة والشؤون الخارجية في مجلس النواب. وصباح غد (الثلاثاء)، في الذكرى السادسة لهجمات 11 سبتمبر 2001، سوف يمثلان أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وبعد الظهر أمام لجنة القوات المسلحة. وسوف يعقد بترايوس وكروكر مؤتمرا صحفيا بعد غد (الأربعاء)، كما سيجريان مقابلات مع وسائل اعلام أميركية عديدة، بعد ان رفضا طلبات لمقابلات مع وسائل الاعلام الأجنبية، وذلك في محاولة واضحة للتأثير على الكونغرس وعلى الرأي العام الاميركي. دعوة للتحلي بالصبر وبدوره، سوف يقوم الرئيس بوش بعد هذه النشاطات، وبناء على توصيات بترايوس وكروكر، بالقاء خطاب متلفز للأمة يشرح فيه 'رؤيته' حول المستقبل في العراق على ان يصاحب ذلك تقرير من البيت الأبيض الى الكونجرس حول الأوضاع على الأرض في العراق مبني على توصيات الجنرال والسفير. ومن المتوقع ان يحث بوش وجنراله وسفيره الرأي العام الاميركي على التحلي 'بصبر استراتيجي' وعدم الضغط لسحب القوات الاميركية بسرعة لاعطاء العراقيين المزيد من الوقت لتلبية الشروط التي طالبهم الكونجرس بها. وكان تقرير صدر الأسبوع الماضي عن 'قسم المحاسبة الحكومية' وهو الذراع التحقيقية التابعة للكونغرس قد أكد ان العراق حقق فقط ثلاثة من الشروط الثمانية عشر التي حددها الكونجرس وحقق جزئيا 4 شروط واخفق كليا في تحقيق 11 شرطا من بينها الاخفاق في اقرار قانون لتوزيع عائدات النفط، وتفكيك الميليشيات وغيرها من الشروط المهمة. ماذا سيقول الجنرال والسفير؟ يقول المسؤولون في البيت الأبيض ان التعتيم سيبقى مخيما على مضمون شهادة بترايوس، التي يبدو أنها لن توزع مسبقا على أعضاء اللجان التي سيمثل أمامها أو على موظفي البيت الأبيض، وذلك في محاولة لدحض اتهامات الديموقراطيين بان البيت الأبيض هو الذي سيتحكم بمضمونها. ولكن ومن خلال تصريحات بترايوس وكروكر ومواقفهما العلنية خلال الأسابيع والأيام القليلة الماضية يمكن تلخيص مضمون تقويمهما بالشكل التالي: امنيا: تم تحقيق تقدم نوعي في المناخ الأمني في منطقة بغداد الكبرى ومحافظة الأنبار والتي جاءت زيارة الرئيس بوش الخاطفة اليها للتدليل على هذا النجاح الهام، وكيف تحولت هذه المحافظة كما قال بترايوس في رسالته يوم الجمعة للعسكريين الأميركيين من 'أكثر المناطق خطورة في العراق الى احدى المناطق الأكثر سلامة'. سياسيا: من المتوقع ان يشير كروكر وبترايوس الى حدوث تقدم بطيء في عملية المصالحة الوطنية والاصلاح الاقتصادي والقانوني. ولكنهما، كما فعلا في الأسابيع الماضية، سيؤكدان ان هذا التباطؤ العراقي كان ولا يزال مخيبا للآمال. وكما قال بترايوس، في رسالته الجمعة الى الجنود، ان 'جميع المشاركين: العراق والائتلاف غير راضين عن التقدم البطيء بشأن اقرار المبادرات التشريعية المهمة مثل قانون النفط والمشاركة في العائدات، واصلاح قانون اجتثاث البعث..'. الإبقاء على القوات الإضافية ومن المتوقع ان يدعو بترايوس الى ابقاء القوات الاضافية في العراق حتى ابريل المقبل (وهو الموعد الالزامي لسحب هذه القوات، لأنه سيكون قد مضى على وجودها في البلاد 15 شهرا، وهو الحد الأقصى للخدمة القتالية قبل العودة الى الوطن للاستراحة والتدريب)، أولا لتعزيز المناخ الأمني المتحسن، ولكن أيضا لتدريب القوات العراقية على المهام القتالية، وللانتشار في المناطق التي ستنسحب منها القوات الأميركية. وكان بترايوس قد أوضح، في تسريبات الى بعض كبريات الصحف الأميركية الأسبوع الماضي، انه يمكن ان يقبل بتخفيض محدود للقوات الأميركية قبل الربيع المقبل على ان لا يتعدى ذلك كتيبة واحدة (يتراوح عددها بين 3500 و4500 عسكري) لطمأنة بعض الأصوات النافذة في الكونغرس. وكان السيناتور الجمهوري النافذ جون وارنر قد طالب بوش بسحب مثل هذا العدد كوسيلة للضغط على حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي لارغامها على التعجيل بعملية الوفاق السياسي. وسرب بعض المسؤولين الحكوميين في انجازات خلفية ان بترايوس سوف يقدم معلومات واحصائيات تبين مدى انحسار أعمال العنف وخاصة الطائفي. وأشار هؤلاء الى ان بترايوس سوف يستخدم الرسوم البيانية الملونة خلال شهادته لاظهار مدى انحسار ما سيسميه 'كثافة الهجمات الاثنية- الطائفية' في أحياء بغداد منذ نشر القوات الاضافية في ديسمبر 2006. وسيبدأ بترايوس برسم بياني يسيطر عليه اللون الأحمر الفاقع الذي يشير الى نقاط الهجمات، وسوف ينتهي برسم بياني للأشهر الثلاثة الأخيرة التي انتهت مع نهاية أغسطس الماضي، غاب عنه اللون الأحمر تقريبا وحل محله اللون الأخضر السلمي مع بعض النقاط الصفراء التي تشير الى المناطق التي لا تزال غير مسالمة بشكل دائم. المعلومات الأخرى ستبين مثلا انخفاض عدد القتلى من المدنيين من 1900 قتيل في يونيو الى 1500 في أغسطس. ومن المتوقع ان يشير الجنرال الى انحسار نسبة الاقتتال الطائفي في بغداد بنسبة 50% حيث كان عدد القتلى في فبراير 800 قتيلا وانحسر في أغسطس الى 400 قتيل. تقويم جديد في مارس وكشف المسؤولون عن ان قائد القوات يرغب بتقديم تقويم آخر للوضع في العراق في مارس المقبل، أي بعد 6 اشهر، وذلك لاعطاء الطبقة السياسية في العراق وقتا اضافيا وفرصة أخرى للاستفادة من تحسن المناخ الأمني لتحقيق الاصلاح الاقتصادي والوفاق السياسي، وأيضا لضمان عدم حدوث تغيرات سريعة في حجم القوات الأميركية قبل تعزيز الوضع الأمني وضمانه أكثر. وترى الباحثة والمؤرخة فيبي مار ان هناك اجماعا في واشنطن وفي البلاد كلها على ضرورة الانسحاب من العراق، وتضيف 'لكننا نعلم ان الانسحاب السريع سيكون بمنزلة كارثة، وأيضا البقاء هناك لوقت طويل غير ممكن، ولذلك السؤال هو كيف يمكن سحب القوات بشكل تدريجي ومنظم، وعلى خلفية وجود حكومة عراقية قادرة على البقاء ومنع البلاد من الانزلاق الى حرب أهلية شاملة' وتضيف فيبي مار التي نشرت كتبا ودراسات عديدة عن العراق في حوار مع 'القبس' ان السؤال الصعب هو: 'كيف سيبدو العراق في أعقاب الانسحاب الأميركي؟ هناك تحسن ملحوظ في الأنبار وهذا واضح، وهذا شيء لم يتوقعه الديموقراطيون..'. معارضة الحرب يتصرف الديموقراطيون وكأن الولاياتالمتحدة قد خسرت الحرب في العراق، وجميع قادتهم، بمن فيهم المرشحون لمنصب الرئاسة، يدعون لسحب القوات، 'ولكن المعارضة للحرب غير موحدة' كما قال لنا جون أولترمان. وفي الأسابيع والأيام الأخيرة تراجع القادة الديموقراطيون عن طلبهم الأساسي منذ استعادة سيطرتهم على مجلسي الكونغرس، أي تحديد جدول زمني لسحب القوات، وبدأوا بالسعي للتوصل الى تفاهم جديد مع بعض الجمهوريين للتعجيل بسحب القوات، بعد ان أدركوا أنهم لن يستطيعوا ايقاف بوش لافتقارهم الى ستين صوتا في مجلس الشيوخ، وهو العدد الضروري لتمرير مشاريع القرارات المهمة في المجلس. وهذا الموقف عرض قادة الحزب الديموقراطي لاتهامات قاسية صادرة عن بعض الأصوات اليسارية المحسوبة على الحزب والتي تتهم قادته بالتراجع عن وعودهم بسحب القوات، ووصل الأمر ببعضهم الى اتهام هؤلاء القادة بخيانة قاعدتهم وناخبيهم. بعد أربع سنوات من الأخطاء التكتيكية والتخبط الاستراتيجي، أصبح للولايات المتحدة استراتيجية قابلة للنجاح وقائد عسكري فعال، والمفارقة هي ان الخطة الأمنية قد لا تنجح لعدم توافر القوات الكافية، وبسبب تراكم الأخطاء وضياع الوقت الثمين، على الرغم من غياب جميع المسؤولين المدنيين والعسكريين الكبار في وزارة الدفاع الذين خططوا لغزو العراق وقاموا بتنفيذه بشكل كارثي.