بعد مرور شهرين ونصف الشهر من توليه منصب الرئاسة، استكمل الرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي صورة الزعيم النشيط الذي يحاول دفع بلاده الكسولة الى الأمام. ويطلق عليه الفرنسيون الزعيم النشط. وساركوزي موجود في كل مكان: يعدو بقميص «تي شيرت» يحمل علامة شرطة نيويورك، يشترك في محادثات مكثفة مع الزعيم الليبي معمر القذافي، يعطي هاتفه الجوديال الى الزعيم الروسي فلامير بوتين المندهش، ويقبل المستشارة الفرنسية انجيلا ميركل. وأخذ ساركوزي يعيد تنظيم الحكومة ويدفع بالتشريعات خلال دورة صيفية خاصة للبرلمان الفرنسي، ويمنح اعفاءات ضريبية للفرنسيين الذين يعملون ساعات اضافية. وبالاضافة الى ذلك، يراقبه الفرنسيون وهو يرفع الضرائب المفروضة على السجائر، ويواجه نظام تعليم جامعي قديم، ويحاول إجبار نقابات العمال على تشغيل القطارات والحافلات خلال حالات الإضراب العام. وخلال كل هذه التطورات، صور ساركوزي نفسه بأنه مشغول لدرجة لا يمكن له حتى الانتقال من شقته في ضواحي باريس الى قصر الإليزيه الرئاسي الفاخر في قلب العاصمة. وقد ذكر أخيراً للصحافيين الذين كانوا يسألون عن موعد انتقاله لقصر الرئاسة «يحتاج الأمر لوقت نحن أسرة كبيرة». وينتقد المعارضون أسلوب رئاسته الشابة ومضمونها: يقولون إن طريقة عدوه سيئة للغاية، وهو سلطوي للغاية، ويتهموه بالتراجع عن تعهدات حملته الانتخابية وخفف إصلاحاته المقترحة. ويضيفون انه ادعى مسؤولية في نجاحات دولية، بينما بذل الآخرون فيها جهدا كبيرا لسنوات قبل رئاسته. ووصف زعيم المعارضة الاشتراكية، فرنسوا هولاند، في شهر يوليو (تموز) الماضي الرئيس الفرنسي، بأنه «منتشر في كل مكان ومتسلط ويعلم كل شي». وأضاف: «رئيس الدولة يقرر كل شيء ويتحدث عن كل شيء ويتدخل في كل شيء ولا ينجز أي شيء». وبالرغم من ذلك، فقد حصل على أعلى درجات الشعبية لأي رئيس فرنسي منذ عهد شارل ديغول. ووضع ساركوزي فرنسا مرة أخرى على الخارطة الدولية وبعث مواطنيها الى الإجازة الصيفية وهم في أحسن مزاج وطني منذ سنوات. وقال جان فرنسوا دوريدو، الذي يرأس وكالة «ايبسوس» لاستطلاعات الرأي: «أصبح وسط كل شيء. الناس لا يتحدثون إلا عنه». ويرى العديد من الفرنسيين أن نجاح ساركوزي المبدئي لا يرجع فقط الى ما يقوله لهم حول ضرورة بذل المزيد من الجهد في العمل والتخلي عن الأفكار القديمة حول دور الحكومة في المجتمع، ولكن بسبب الطريقة التي يعرب فيهاعن هذه الأفكار. فقد أضاف ساركوزي البالغ من العمر 52 سنة لمسة أكثر إنسانية وشعبية الى وظيفة كانت تعتبر للنخبة في عهد سلفه جاك شيراك. وقالت كاثرين بليت، وهي موظفة في بلدية باريس في التاسعة والثلاثين من عمرها: «يستخدم ساركوزي كلماتنا وهو ما يجعله قريبا منا أكثر من أي رئيس آخر». وأضافت: «لقد دفعني للاهتمام ببلادنا بسبب الطريقة التي يتحدث بها، مستخدما عبارات بسيطة. يمكنني فهمه». وقد بدأ ساركوزي بالتخلي عن عديد من العادات القديمة والتي تعود الى عقود عدة، مثل العفو عن كل غرامات المرور غير المدفوعة عندما يتولى الرئاسة ويفرج عن آلاف من السجناء من السجون المزدحمة في اليوم الوطني المعروف بيوم ال«باستيل»، وهو تقليد بدأه نابليون عام 1802 بمناسبة اقتحام الثوار لسجن «الباستيل». ودولياً، يعمل ساركوزي على كسب ود القادة الدوليين، وتعديل علاقات ممزقة مع الولاياتالمتحدة ودول الجوار الأوروبية، بالاضافة الى محاولة فرض المزيد من النفوذ في الشرق الأوسط وأفريقيا. وفي خطوة رمزية، أصبح ساركوزي أول زعيم أوروبي يقف لالتقاط صورة رسمية وهو يقف بين العلم الوطني وشعار الاتحاد الأوروبي. ويعتزم ساركوزي زيارة الرئيس جورج بوش في واشنطن ومخاطبة الكونغرس الأميركي خريف هذا العام. وكانت أنباء قد أشارت الى ان ساركوزي قد تخلى عن مواقع العطلات الفرنسية التقليدية وقرر التوجه الى بحيرة وينيبيسوكي في نيوهامبشير الأميركية لقضاء عطلة أغسطس (آب) لهذا العام. إلا أن احد ابرز تحركاته الدولية هدد هذا الأسبوع بأنه قد يصبح قضية سياسية محرجة. فقد سافرت سيدة فرنسا الأولى، سيسيليا ساركوزي، الشهر الماضي الى ليبيا لحضور اجتماعات مهدت للإفراج عن الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني الذين أدانتهم محكمة ليبية بالتورط في نقل دم ملوث بالفيروس المسبب لمرض الإيدز لأطفال ليبيين. وحتى عند ظهور سيسيليا ساركوزي في الصور الفوتوغرافية مع الممرضات والطبيب عقب صدور قرار الإفراج عنهم، قال كثير من المسؤولين الأوروبيين انها حاولت خطف الأضواء من الاتحاد الأوروبي الذي ظل يعمل على مدى سنوات للإفراج عن الطاقم الطبي. وطار ساركوزي اليوم التالي الى طرابلس والتقى الزعيم الليبي معمر القذافي ووقعا اتفاقيات تتعلق بمجالات الأمن والرعاية الصحية والهجرة. ونفت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت إبرام باريس أي اتفاق سلاح مع ليبيا خلال زيارة الرئيس ساركوزي، إلا أنهم اعترفوا بصفقة صواريخ مضادة للدبابات بين الجانبين قيمتها 230 مليون دولار بعد أن كشف نجل القذافي، سيف الإسلام، النقاب عنها في لقاء مع صحيفة «لو موند» الفرنسية. ونفت الحكومة الفرنسية تصريحات نجل القذافي التي ذكر فيها ان الإفراج عن الممرضات والطبيب البلغار فتحت الطريق أمام عقد صفقة سلاح بين ليبيا وفرنسا. وطالب الزعيم الاشتراكي هولاند بإجراء تحقيق برلماني حول هذه القضية أول من أمس، متسائلاً: «إذا لم يكن هناك تبادل ولم تكن هناك مقايضة، لماذا إذن توقيع اتفاق عسكري مع نظام القذافي المسؤول عن ارتكاب أعمال إرهابية وليبيا التي تعتبر دولة مارقة؟». وداخلياً، اثبت ساركوزي أنه خصم سياسي ماكر، فقد فاجأ الحزب الاشتراكي بمنح مواقع بارزة في الحكومة لأبرز قادة الحزب، كما انه رشح في الآونة الأخيرة دومينيك ستروس كان، الزعيم الاشتراكي الذي قد ينافس ساركوزي في الانتخابات المقبلة، لرئاسة صندوق النقد الدولي. ويمكن القول إن ساركوزي حقق نجاحا نسبيا في أول مسعى له في دفع تغييرات على بضع السياسات من خلال البرلمان. فقد صادق النواب على خطته الخاصة بتشجيع الناس على العمل لساعات أكثر من 35 ساعة في الأسبوع بإلغاء الضرائب المفروضة على دخل ساعات العمل الإضافي، فضلا عن خفض سقف ضريبة الدخل من 60 في المائة الى 50 في المائة. وجرت المصادقة على مساعي ساركوزي لمراجعة نظام التعليم الجامعي بعد موافقة حزبه على إلغاء التغييرات على نظام الرسوم والقبول، وهما من أكثر القضايا إثارة للجدل. ولكن المنتقدين والمؤيديين يستعدون لمعارك أصعب في الفترة المقبلة. وقد حذرت «لوموند»: «الرئيس النشط ليس سوبرمان».