حساب المكسب والخسارة بخصوص أول زيارة قام بها الرئيس محمد مرسي للصين ختامه ليس مسكا، لأنه لا يجب- بأي حال من الأحوال- قياس المكسب والخسارة هذه المرة بالطريقة نفسها التي كانت متبعة في تقويم المهام الخارجية لكبار المسئولين إبان العهد البائد. على هذا الأساس، أرى أنه من غير المقبول تمرير أي دعاية رسمية عن الفتح العظيم في العلاقات المصرية الصينية، ولا يجوز وصف أو فهم زيارة الرئيس مرسي للصين بأنها أصبحت ناجحة لمجرد نشر عناوين تتصدر الصحف، بما تعهدته الصين من نفحات كرم مفاجئة تتضمن مساعدات مالية قيمتها: 200 مليون دولار قرضا ميسرا و70 مليونا منحة و300 سيارة للشرطة (!!) فضلا عن إنجاز آخر على ورق بتوقيع 8 إتفاقيات ثنائية تشمل مجالات التعاون المشترك في الإقتصاد والتجارة والزراعة والسياحة والإتصالات والبيئة، ودفع الإستثمارات لتصل إلى نحو 6 مليارات دولار، مقابل 500 مليون دولار- فقط- بين البلدين، في الوقت الحالي!! هل رأيتم أي إختلاف فيما حملته الصحف من عناوين وأنباء عن الزيارة التاريخية ولمباحثات القمة والقاع عما كانت تفرد له الصفحات والمساحات والبرامج والنشرات الإخبارية في وسائل الإعلام المصرية المقروءة والمسموعة والمرئية إبان العهد البائد؟! سؤال آخر، كيف جرى الإعداد لمثل هذه الإتفاقيات الثمانية، إضافة إلى إعلان قائمة طويلة عريضة من الإستثمارات المشتركة.. خصوصا أن الترتيب والإعلان عن الزيارة لم يمضي عليهما سوى أيام قليلة؟ وما هو نصيب بند تحسين الخلل الرهيب في فرص الصادرات المصرية للصين الذي لا يتجاوز المليار ونصف المليار دولار في مقابل نحو ثمانية مليارات ندفعها عدا ونقدا من لحم الحي للواردات من الصين سنويا؟ أكتب هذا التقويم عن زيارة الرئيس لبكين، على مسئوليتي، وفي ضوء خبرتي المتواضعة بالملف الصيني، خبرة بدأت منذ 15 عاما بالتمام والكمال بعد أول مهمة قمت بها لهذا البلد العملاق لتغطية عودة هونج كونج إلى الوطن الأم في منتصف عام 1997. أعرف أنه بسبب هذا التقويم السلبي للزيارة أنني لن أسلم من حرب ضروس قادتها ضدي كتائب الإخوان الألكترونية، على مدى أسابيع عند توجيه اي إنتقاد لسياستهم في إدارة شئون الدولة، اللهم إلا إذا انصب إهتمام الأهل والعشيرة من أخوات وإخوان الحكم الكرام في مصر، ومريديهم حول العالم، وإنشغلت كتائب اللجان الألكترونية بالمراسم المهيبة للإستقبالات والولائم والخطابات وألبومات الصور التذكارية المتروكة للأبناء والأحفاد، مع توظيف الماكينة الإعلامية الجبارة والمضللة، لتصبح الزيارة نصرا مبينا من عند الله، وغزوة تفوق في نتائجها غزوة الصناديق، غير المباركة. عشية سفر الدكتور محمد مرسي، لبكين سألتني إذاعة ال بي.بي.سي. عما إذا كانت زيارة الرئيس للصين تعتبر تحولا في سياسة مصر الخارجية، بإعطاء الأولوية للعلاقات مع الشرق على حساب الغرب، أجبت بإختصار: لا يوجد تحول ولا يحزنون، لأن العلاقات المصرية- الصينية كانت قوية ومتينة بالأساس، منذ ما يزيد على خمسة عقود، وقد أرسى قواعدها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، عندما وظف رصيد زعامته، وصداقته العميقة مع القيادات التاريخية الصينية، لتحقيق أعلى درجات الإستفادة من الإمكانات السياسية والبشرية والمادية الضخمة لجمهورية الصين الشعبية، وهذا ما تحقق فعليا إبان الحقبة الناصرية في دعم قضايا التحرر والتنمية الإقتصادية والإجتماعية المصرية والعربية عموما. مشكلة عدم التكافؤ في العلاقات المصرية- الصينية ظهرت في وقت لاحق وبالذات في أواخر سبعينيات القرن المنصرم، عندما شهدت الصين، في تلك الحقبة التاريخية المهمة من تاريخها، تحولات سياسية وإقتصادية وإجتماعية هائلة، بزعامة دينج شياو بنج، لم تتفاعل معها وتتفهما- بكل أسف- القيادات المصرية المتعاقبة في المراحل التالية للحقبة الناصرية، لينصب جل الإهتمام على الشكل في العلاقات دون المضمون وتغرق الصين الأسواق المصرية بمنتحاتها لنصل إلى الحالة البائسة التي نحن عليها الآن. واستمرارا للمنهج السابق في إدارة الدولة للعلاقات الخارجية، تدشن الجمهورية الثالثة- وقيادتها الآن في أضعف حالاتها- علاقتها الثنائية غير المتكافئة مع الصين، للدرجة التي دفعت برئيس الإتحاد العام للغرف التجارية، أحمد الوكيل، إلى الشكوى المرة من عدم التنسيق مع الإتحاد بخصوص ترتيبات الشق الإقتصادي من زيارة الرئيس لبكين. ختاما، أود أن أهمس في أذن الفريق الرئاسي المختص بترتيب المهمات الخارجية لرأس الدولة، وأقول: إذا كانت لديكم الرغبة الفعلية في الإتجاه شرقا أملا في إعادة البناء الإقتصادي والإصلاح السياسي، عليكم بالإستفادة من التجرية التايوانية الرائدة، حتى ولو غضب الأصدقاء الصينيون. فقد تمكنت تايوان من أن تصبح إحدى النمور الآسيوية الأربعة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وأصبحت من المستثمرين الرئيسيين في البر الصيني، وفي دول جنوب شرق آسيا، كما أن تايوان باتت نموذجا يحتذى به في الإصلاح السياسي والديمقراطي (عكس الصين) وتحتل مكانة متقدمة من حيث إحتياطيات النقد الأجنبي والقدرات التكنولوجية، وما قام به الزعيم الصيني دينج شياو بينج لم يكن في الأساس إلا إمتداد لتجربة تايوان الرائدة. نقلا عن جريدة الأهرام