التاريخ مليء بتجارب انتفاضات وثورات شعوب, منها ما نجح بمجرد انتقال مقاليد الأمور الي قيادات النظام الجديد, ومنها ما جري إجهاضه, كان النجاح من نصيب الذين أفلحوا في احتضان مختلف القوي المشاركة في الثورة, تحت مظلة تضمهم جميعا, وكان الفشل من صنع من لجأوا الي تقليص دور بقية الشركاء. ودائما يحدث تفاوت في المدي الزمني, الذي تحتاجه الثورة لبلوغ حالة استقرار واستتباب الأمر لها, حتي تشرع في بناء الدولة دون معوقات, وأن ذلك كله تحدده, طبيعة الدولة, وظروفها, والخصائص القومية لشعبها, عندئذ تكون قدرة سلطات الحكم البرلمان, والرئيس, والحكومة علي أداء مهامها رهن لم شمل قوي الثورة دون أن يفرض طرف ثقله علي الآخرين, والمعروف أن للديمقراطية جناحين هما الأغلبية والمعارضة. وفي حالة ثورتنا المصرية, وما مرت به, وما ينتظرها, يظهر أن ما يصون التجربة الديمقراطية, وهي لاتزال في بداياتها, هو عدم قطع الصلة بين الأغلبية وبين منبت الثورة, والذي استمدت منه شرعيتها, ومنبت الثورة هو ما كان قد صنع نجاحها في الثمانية عشر يوما الأولي بعد الثورة, وتجسد في تلاحم موصول بين المصريين, علي تنوعهم واختلاف توجهاتهم, بطريقة عكست الخصائص القومية التاريخية للشخصية المصرية, ولم يظهر بينهم في الميدان, أي نزعات للفرقة, والتناحر, وهو ما حدث للأسف بعد انجاز الخطوة الأولي في مشوار الثورة, بخلع الرئيس السابق. أقول هذا, ونحن في خضم أحاديث تدور حول شرعية البرلمان, وشرعية الميدان, وهل هناك تعارض بين أيهما والآخر؟.. وهل تجب شرعية أحدهما الآخر؟ والموضوع علي هذه الصورة قد يكون فيه تبسيط كثير, وهو ما يحتاج نظرة أوسع, للإلمام بمختلف أبعاده. وبداية, ففي تقديري, أنه لا تعارض بين الاثنين, لأن ظروف عدم اكتمال أهداف الثورة حتي الآن, وما تتعرض له من مؤامرة خبيثة, من ثورة مضادة, تقودها قوي ارتبطت مصالحها بالنظام الساقط, ووجود عناصر إجرامية منظمة, ومتصلة ببعضها في شبه تنظيم مرتزقة, جاهز للتدمير, والتخريب, والقتل, لقاء أجر, فإن هذا كله يبقي للايقاع الثوري استمراريته وفاعليته. لهذا كان من طبائع الأمور, أن تبقي طاقة الثورة في حالة تفاعل مستمر, وتظل شعلتها وهاجة لا تخمد جذوتها, الي أن تستكمل مصر ثورتها. .. والحل؟ .. إن وضعا كهذا, يحتاج أن يمضي في مسارين, الأول يقع عبؤه علي البرلمان, لكي يصلح خطأ جوهريا وقعت فيه إدارة الدولة طوال عام 2011, وتمثل في اقصاء شباب الثورة, عن صدارة المشهد السياسي, وهم أصحاب الفضل, في وجود البرلمان المنتخب وتمهيد الأرض, للسير في طريق اقامة حياة سياسية طبيعية, وهذا يلزمه إيجاد نوع من التواصل والحوار البناء, بين الطرفين, وتجنب علو جدار عازل بين أحدهما والآخر. والمسار الثاني, يقع عبؤه علي الشباب, الذين أطلقوا الثورة في 25 يناير, فعليهم نبذ نزعة التفرق والتشرذم, والتلاقي حول تجمع تنظيمي, يكون من شأنه استبعاد كل الدخلاء الذين اقتحموا ساحة الميدان المفتوحة مداخله من كل ناحية, والذين صاروا ينسبون أنفسهم للثورة, ومن بينهم مندسون بلا حصر, يضمرون شرا للثورة والبلد, صحيح أن طليعة الثوار لم يكن لديهم برنامج لما يفعلونه بعد الثورة, لأنها فاقت الحدود التي توقعوها لها, لكن التحول الذي نقل الحركة الاحتجاجية الي مرتبة الثورة الجماهيرية الكاملة, كان يفرض عليهم, إعادة ترتيب أفكارهم, من خلال تلاقيهم معا, وتدارسهم للتجربة. لقد خطت مصر أول شوط نحو الديمقراطية, بانتخابات حرة ونزيهة, لكن مفهوم ومضمون الديمقراطية لا يقتصر علي الحلقات الثلاث المستقرة وهي: حرية التعبير, وتعددية الأحزاب, وتداول السلطة, فهذه الحلقات مجرد عنوان, لكن الديمقراطية, أشمل من ذلك وأبعد مدي, فهي تكتمل, حين تدار الدولة, بالطريقة التي تعبر عن الرضا المجتمعي العام, كما أن الديمقراطية تتيح أدوارا للقوي السياسية, لتتنافس من موقع الندية, بين حزب الأغلبية, وأحزاب المعارضة. لقد كان الخروج الكبير للمصريين في الانتخابات, والذي تجاوزت نسبته 60%, دليلا علي رغبة طاغية, في أن يكونوا مشاركين, في القرار السياسي, بعد عقود من استبعادهم من أي دور في صنع القرار, وباقتناع بأن مشاركتهم هي البرهان علي أن ما يمارس هو ديمقراطية حقيقية. ويبدو أن البرلمان يعي تماما قيمة استخلاص الدرس, من أخطاء جسيمة وقعت في عام 2011, نتيجة استئثار طرف بتقرير مسار الدولة, واقصاء من يعبرون عن ضميرها وروحها, سواء من طليعة الشباب الذين يعرفون بعضهم بالاسم, أو من قطاع معروف من النخبة, كان له دوره التنويري, وإيقاظ الحس الشعبي الرافض للنظام السابق, وسياساته, وسلوكياته. ومادامت الثورة لم تستكمل مجمل أهدافها بعد, فإن طاقتها التي تفجرت في 25 يناير 2011, ستبقي في كامل عافيتها, المهم أن يحدث استيعاب طاقتها في صيغة للتواصل بين البرلمان والميدان (الميدان كرمز) تداركا لأخطاء كارثية حدثت في سنة مضت. نقلا عن صحيفة الاهرام