يحدث في أحيان كثيرة عقب الثورات والتحولات الكبري التي تسقط فيها الشعوب أنظمة حكم مرفوضة أن يتسم سلوك الجماهير بالمزج بين التصرف من منظور السياسة وبين رد الفعل المحكوم بعوامل نفسية أكثر منها سياسية وهو ما شاهدنا نماذج له في الصين عام 1978 وفي الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية عام. 1991 ولما كانت الانتخابات والحكم وإدارة الدولة هي جميعها في المقام الأول عملية سياسية, لذلك تحدث في الفترة اللاحقة بعد أول انتخابات تسفر عن نظام سياسي جديد, إعادة فرز لجميع أبعاد الموقف السياسي بعد ان يكون غبار اسقاط النظام السابق قد انقشع والرؤية صارت واضحة.. عندئذ يجري استخلاص الدروس مما أنتجته التجربة الأولي للديمقراطية من حيث جوانب للصواب والخطأ. لقد كنا نقيس رفض المصريين للنظام السابق, بالمقارنة بين إعراض من لهم حق التصويت عن الذهاب الي صناديق الانتخاب, وبين الإقبال علي المشاركة في آخر انتخابات برلمانية في يناير 1952 قبل ثورة يوليو مباشرة وكانت نسبتها 60.62% بينما نسبة المشاركين في انتخابات 2005, و2010 قد تدنت الي ما يتراوح بين 23% و25% حسب التقديرات الرسمية وان كانت الأرقام غير الرسمية تتراوح بين 7% و10%. لذلك جاء الخروج الكبير للمصريين في المرحلة الأولي للانتخابات في نوفمبر 2011 مخالفا لما كان عليه سلوكهم السابق تعبيرا عن إرادة شعبية لطي صفحة النظام السابق وإسقاطه. وهو تصرف مشابه للخروج الكبير للمشاركة في استفتاء مارس الماضي تعبيرا عن نفس الارادة للخلاص من النظام السابق. وهناك مجموعة من الأسباب التي توجد التوقعات عن إعادة المصريين فرز أبعاد التجربة والاستفادة منها في أي انتخابات أخري قادمة, منها: 1 السيولة الكبيرة في الخريطة السياسية التي ازدحمت بحوالي 60 حزبا واكثر من أربعة آلاف مرشح مما شتت النظرة التي تستوعب المشهد وتحدد معايير الاختيار. 2 ان الأداء النيابي هذه المرة سوف يفرض متطلبات تختلف تماما عما جري العمل به طوال60 عاما مضت وهو ما سيجعل أداء النواب في التجربة البرلمانية الجديدة محل اختبار بالغ الدقة.. فنحن في مرحلة ستتقطع فيها الخيوط التي كانت تربط المجموعة البرلمانية للحزب الحاكم بالرئيس الذي كان قد دمج الحزب بالدولة وكل مرافقها الأمنية والاقتصادية والتنظيمية, وهذا التفكيك للحبل السري بين القيادة السياسية ونواب الأغلبية, فضلا عن وجود أحزاب ونواب فرديين يدخلون عملية التنافس, سوف يتطلب من النائب مواصفات متغيرة في الأداء البرلماني, أولاها ان يكون أمينا في تمثيله للأمة.. رغم انتمائه الحزبي التنظيمي وولائه لحزبه. ثم انه سيكون مطلوبا من النائب المعرفة بأمور الثقافة والاقتصاد والظروف الاجتماعية الداخلية المتحركة والتي ليست في سكون وكذلك المعرفة بالتحولات التي لحقت بالعالم والتغيير في النظريات والأفكار السياسية والاقتصادية والمفاهيم المتغيرة للتنمية الاقتصادية والأمن القومي وغيرها. 3 رغم أهمية إحاطة النائب بمشاكل واحتياجات دائرته الانتخابية فإن الظروف المتغيرة ستغير من طبيعة دوره كنائب للخدمات. هذا الدور كان أساسيا في وقت لم تكن فيه الدولة لديها خطة اجتماعية لحل المشاكل وتحقيق الأهداف وفق معايير العدالة الاجتماعية. أما في حالة امتلاك الدولة هذه الرؤية التي تصل بها الي عمق مشاكل وهموم المجتمع بكل فئاته فإنها عندئذ تزيح عن كاهل النائب عبئا يجره الي الافراط في المحلية في أدائه البرلماني, وهو ما سيضعه تحت الضوء والمحاسبة في أدائه كنائب للمجتمع وللدولة بشكل عام. 4 ان البرلمان والحكومة والرئاسة التي ستكون جميعا ممثلة للثورة سوف تباشر عملها في ظروف لم يسقط فيها النظام القديم بعد ولا تزال عناصره نشيطة ونافذة في مختلف شرايين الدولة. يضاف الي ذلك ظاهرة البلطجة التي لم تستأصل رغم مرور عشرة شهور علي الثورة. 5 ان الانتخابات التي جرت هي أساسا نتاج للدور الذي لعبه الشباب طليعة ثورة 25 يناير وان لم يتح لهؤلاء الشباب ان يصعدوا هذه المرة الي صدارة المشهد الانتخابي بالمخالفة الفجة لمنطق الثورات.. فهم الطليعة رغم مشاركة لاحقة من آخرين وهذا لا يقلل من دور وطني مؤثر للذين ارتفع صوتهم ضد النظام السابق بالحركات الاحتجاجية بالكتابة والمشاركة في الندوات. وبالطبع فإن ظروف سيولة الوضع الداخلي وما شابه من أحداث فوضي وانفلات أمني وتراجع اقتصادي قد دعا البعض لأن يلصق بهم صفات سلبية لم يكونوا مسئولين عنها, فهم ليسوا أصحاب القرار. لكنهم ايضا يتحملون جانبا من المسئولية, فهم من فرط ابتهاجهم بإسقاط رأس النظام لم يحسبوا تعقيدات الموقف, والتي غابت في البداية عن جموع المصريين وليس عن الشباب وحدهم.. فكانت النتيجة تشتتهم في اتجاهات متعددة ولعلهم يكونون قد استوعبوا الدرس وتعويض ما فات بالتجمع في تكتل حزبي واحد واختيار قيادة لهم ولا يمنع من ان يختاروا شخصية ثورية من أصحاب الخبرة والمواقف الوطنية. ان الثورة التي انطلقت في 25 يناير كانت تعبيرا عن إرادة شعب وان طاقتها المتجددة كفيلة بإعادة ضبط مسارات العملية السياسية وردع اي خروج علي إرادة الشعب وعلي خصائص وطبيعة الثورة التي بدأت منذ أكثر من عشرة شهور. المزيد من مقالات عاطف الغمري