هذه مناسبة للفرح.. ليس لنجاح المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب، والمحافظات التسع التي جرت فيها أمنا وتنظيما فقط، لأننا كنا نتوقع ذلك، وكتبناه هنا أكثر من مرة، ولكن أيضا وهذا هو الأهم أن الإقبال الجماهيري الحاشد على صناديق الاقتراع يثبت معاني إيجابية، ويقدم إشارات لا تخطئها العين على أن التفاؤل بالمستقبل له ما يبرره وسط الغيوم الكثيفة التي تلبدت بها سماء الحياة السياسية المصرية أخيرا. الإقبال الذي فاجأ المصريين أنفسهم، قبل أن يفاجئ العالم كله، يثبت أنهم تحدوا كل المخاوف من الانفلات الأمني، ومن صدامات دامية كان أغلبية المتحدثين في الصحف ومحطات التليفزيون يتوقعونها، وبالتالي كانوا يبدون دهشتهم علنا من الإصرار على أن تجرى الانتخابات في موعدها، ويطالبون بتأجيلها أو بتأجيل مرحلتها الأولى لتصبح هي المرحلة الثالثة، على أن تكون البداية هي المرحلة الثانية، أو على الأقل تأجيل هذه الانتخابات في القاهرة والإسكندرية، باعتبارهما بوتقة التوتر السياسي في البلاد، الذي تصاعد في الأسبوعين السابقين على موعد بدء الانتخابات إلى حدوده القصوى. ربما يقول البعض إن التوتر السياسي والانفلات الأمني لم يمنع المواطنين من الاستمرار في حياتهم العادية قبل الانتخابات، وهذا صحيح، ولكن نزول الناخبين وبينهم نسبة عالية من النساء والفتيات وكبار السن منذ ساعات الفجر للانتظام في صفوف طويلة انتظارا لبدء عملية الاقتراع يؤكد أن المسألة تتجاوز إيقاع الحياة العادية المستمر- ولكن باضطراب- منذ ما بعد ثورة يناير في ظل الانفلات الأمني، واستمرار المظاهرات والصدامات وغيرها من أشكال التوتر السياسي، إلى تحدي كل المخاوف كما سبق القول من أجل جني أولى ثمار الثورة، وعدم إضاعة مزيد من الوقت فوق ما ضاع منه في الانقسامات والمجادلات والأحاديث المرسلة باجتهادات، ليست دقيقة في قراءة المشهد العام في مصر على اتساعه. لابد إذن أن الدافع الذي حرك كل هذه الجموع من الناخبين كان أقوى كثيرا من الموانع المفترضة ولا جدال في أن هذا الدافع هو أن الشعب يريد الانتخابات والديمقراطية طريقا واحدا لا ثاني له لتنفيذ أهداف الثورة، وتحقيق التحول الديمقراطي، باختيار الحكومة المدنية المنتخبة التي تتسلم زمام السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة. لكن ينبغي ألا يخطئ أحد الفهم في مدلول هذا الاختيار الشعبي الاجماعي، ويعتبره كفرا بالثورة نفسها، لأن ثورة يناير ما قامت وما شارك فيها الشعب بكل فئاته إلا طلبا للديمقراطية، أي الاحتكام لهذا الشعب نفسه في اختيار من يحكم، وفقا لمبادئ الديمقراطية.. أي الخضوع للمساءلة، والقبول بالتداول السلمي للسلطة من خلال صندوق الانتخاب، وقبل ذلك وضع دستور يضمن كل تلك المفاهيم والاجراءات، ويمنع مقدما العودة إلى الاستبداد وسيطرة الحزب الواحد على الحاضر وعلى المستقبل. هذه هي الرسالة الأهم لجمهور الناخبين بغض النظر عمن سيكون صاحب أو أصحاب الأغلبية في البرلمان المقبل، صحيح أن المؤشرات في المرحلة الأولى من الانتخابات تشير إلى تفوق التيار الإسلامي بقطبيه "الإخواني والسلفي" ولكنها على كل حال تبقى مرحلة أولى وصحيح أيضا أنه لا يوجد ما يدعو للافتراض بأن نتائج المرحلتين الثانية والثالثة سوف تختلف عن نتائج الأولى اختلافا كبيرا، إلا أن الفهم الصحيح من كافة الأطراف لرسالة الناخب سوف يساعدنا على إدراك أن الفائز الحقيقي هنا هو الديمقراطية ذاتها، وليس هذا الحزب أو ذاك، وبالتالي فإن مثل هذا الفهم قد يقودنا إلى التوافق الذي لم نصل إليه قبل الانتخابات، حول معايير اختيار اللجنة التأسيسية للدستور، وحول المبادئ الأساسية للدستور نفسه، والمعنى هنا أن صاحب الأغلبية أو أصحابها عليهم أن ألا يعتبروا فوزهم تفويضا بأن يفعلوا ما يشاءون، بقدر ما هو تفويض لهم بوضع أسس ومبادئ نظام ديمقراطي سليم يستوعب كل القوى، ويسمح لها بالتعبير عن نفسها، ويوفر آليات المحاسبة والرقابة والتغيير السلمي بأصوات الناخبين دائما وأبدا. لقد التزم حزب الحرية والعدالة وحلفاؤه علنا بوثيقة الأزهر التي تقر مبدأ الدولة الديمقراطية الدستورية، والتزم بها أغلب الأحزاب والمتنافسين على المقاعد الفردية، وهذا يعني منطقيا أن يتعاون الحرية والعدالة مع كل الملتزمين بهذه الوثيقة لكي لا يتحول البرلمان المقبل إلى ساحة لمعركة لا تنتهي إلا بغالب ومغلوب عند الشروع في العمل الجدي لوضع الدستور، إذ كما قلنا في مقال سابق هنا إن هذه انتخابات من أجل الدستور، وليست مجرد انتخابات لبرلمان يشرع القوانين، ويراقب الأداء الحكومي، وكان ذلك يعني من وجهة نظرنا الرهان على الناخبين لكي يختاروا برلمانا متوازنا، بحيث لا تجد الكتل الفائزة، وممثلو التيارات المختلفة من الفائزين بالمقاعد الفردية سبيلا لانجاز مهمة التحول الديمقراطي سوى التوافق، أما وقد ضعف احتمال وجود البرلمان المتوازن من الناحية العددية طبقا لمؤشرات المرحلة الأولى من الانتخابات، فإن الحرص على مستقبل مصر، ومستقبل الاختيار الشعبي للديمقراطية يتطلب إيجاد هذا التوازن بعيدا عن صيغة الغالب والمغلوب في تأسيس نظامنا السياسي الجديد. قد يكون من المفيد هنا تذكير الأغلبية البرلمانية التي ستأتي بها الانتخابات بأن الجميع شاركوا في ثورة يناير، وبأن القوى التي أشعلت شرارتها الأولى لم تأخذ الفرصة الكافية لتنظيم نفسها انتخابيا، وبالتالي فإنه يتحتم أخلاقيا وسياسيا ولأسباب تتعلق بالأمن القومي للبلاد أن يأتي الدستور الجديد تعبيرا عن روح الثورة، وهي روح الوحدة والديمقراطية، مادام قد تعذر أو قد يتعذر التعبير عن هذه الروح في التكوين العددي لمقاعد البرلمان. الشعب يريد الديمقراطية.. وليس من حق أحد أن يختار له طريقا غيرها الشعب يريد البناء، وليس من حق السياسيين أن يجعلوا البرلمان القادم ميدان معركة تؤخر هذا البناء. الشعب يريد أن يبقى هو الحكم، وليس من حق أحد أن يكون وصيا عليه. نقلا عن جريدة الأهرام