أذكر أن المسودات الأولي لوثيقة الأزهر كانت تنص, فيما تنص, علي ضرورة إقامة دولة مدنية ديمقراطية حديثة, تقوم علي تداول السلطة و التعددية الحزبية. وكنا, نحن الذين اتفقنا علي صياغة الوثيقة من أفندية ومشايخ, لا نري حرجا في النص علي مدنية الدولة, فقد كنا نحسب أن هذا أمر مقرر في تراث الأزهر التنويري, وعدد غير قليل منا كان قد قرأ ما كتبه الإمام محمد عبده (1849-1905) من أن الإسلام هدم بناء السلطة الدينية, ومحا أثرها حتي لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم, فالإسلام لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانا علي عقيدة أحد ولا سيطرة علي إيمانه, وأن الرسول عليه السلام كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا, ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء وكان أغلبنا, إن لم يكن كلنا, يعرف أن أحد المشاركين معنا في جلسات النقاش. وهو الأستاذ الدكتور عبد المعطي بيومي نشر كتابا بعنوان الإسلام والدولة المدنية مؤكدا فيه أن الدولة التي بناها الإسلام وأقرتها مبادئ شريعته هي دولة مدنية من كل الوجوه وقد توسل الرجل بعلمه في إثبات ما سبق إليه سلفه الجليل الإمام محمد عبده ليؤكد الأفكار نفسها, لكن في ضوء متغيرات عالمية ومحلية لم تحدث في زمن الإمام محمد عبده الذي توفي في مطلع القرن العشرين, ولم يكن قد سمع أو عرف عن نتائج استخدام الدين في الصراعات السياسية بين القطبين الكبيرين في سنوات الاستقطاب الدولي, زمن الحرب الباردة, ولا حتي رأي نفوذ الوهابية التي تحالفت مع أسرة ابن سعود لتأسيس دولة دينية. إطارها المرجعي هو السلفية الوهابية, ولا سمع عن الجمهورية الإيرانية, أو ما فعلته طالبان في أفغانستان بتأثير القاعدة وقوات ابن لادن, إلي آخر مشروعات الدولة الدينية التي انتهي تأثيرها السلبي والكارثي إلي تعمق الإحساس في داخل مجموعات غير قليلة من مثقفي المجتمع المدني بضرورة التصدي لفكرة الدولة الدينية وأذكر أن الإمام سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق عقب علي سبعة مقالات متتالية نشرتها في هذه الجريدة الأهرام بعنوان مخاطر الدولة الدينية مؤكدا أن الإسلام لم يعرف الدولة الدينية. ولا يدعو لها علي النحو الذي استخدمها فيه البعض لخدمة السياسة وتحقيق مآرب مادية في أغلب الأحوال ونصحني فضيلته, رحمة الله عليه, بأن أستخدم مصطلح الدولة المدنية الرشيدة التي وافقته علي أن الإسلام الصحيح يدعو لها وكان شيخ الأزهر السابق, عليه رحمة الله, يسير علي نهج الإمام محمد عبده, وعلي سنة التقاليد التنويرية في الأزهر الشريف وهي التقاليد التي دفعت الدكتور عبدالمعطي بيومي إلي تأليف كتابه الذي نوهت به وناقشته في هذه الجريدة وهي نفسها التقاليد التي ينطوي عليها العالم الأزهري الجليل محمود حمدي زقزوق وشيخ الأزهر الحالي, أطال الله عمرهما. ولذلك مضت جلسات النقاش الأولي لإعداد وثيقة الأزهر, ولا اعتراض جديا علي ذكر جملة دولة مدنية ديمقراطية حديثة وكنت سعيدا بهذه الصياغة وأري فيها موازيا لما قصد إليه الدكتور سيد طنطاوي, رحمه الله, باصطلاح الدولة المدنية الرشيدة لكن فيما يبدو اكتشف البعض أن الإبقاء علي صفة المدنية يحمل معاني سلبية تخيلوها في أنفسهم, وحاولوا التخييل بها في أذهان الآخرين, فتعلل متعلل بأنه لا يوجد في معاجم النظريات السياسية الغربية ما يسمي بالدولة المدنية, رغم وجود ما يسمي بالمجتمع المدني, وذهب ثان إلي أن اصطلاح الدولة المدنية غامض وليس واضحا وجلسنا لساعات نناقش هذا الاصطلاح الذي رفضه البعض القليل وقبله البعض الكثير وعندما جاء دوري في الكلام قلت ما معناه أنني لا يعنيني وجود المصطلح في المعاجم والموسوعات الأجنبية, رغم تأكدي من أنني لو قلت لأي مثقف غربي Secular State سوف يفهم أنني أعني الدولة المدنية, ويري فيها نقيضا للدولة الدينية حتي في لغته ولكن هذا كله ليس حجة أعتمد عليها في استخدامي مصطلح الدولة المدنية بلغتي العربية المعاصرة أو في بحثي عن الطريق الأفضل لمستقبل بلدي ومضيت قائلا إن الجماعة الثقافية المصرية قد اتفقت علي استخدام مصطلح الدولة المدنية نقيضا لاصطلاح الدولة الدينية التي رأينا تطبيقاتها الكارثية في أفغانستان, وما انتهت إليه في غير أفغانستان من أمثلة دالة تفقأ العين. ويقيني أن هذا النوع من الوعي هو الذي جعل الشباب الثائر, في ميدان التحرير, يردد شعار مدنية مدنية مقابل شعار دينية دينية الذي كان يصرخ به بعض شباب تيارات الإسلام السياسي ويبدو أن انتصار شعار مدنية مدنية في الميدان, وما أحدثه من تأثير في شباب الإخوان المسلمين الذين تأثروا بأقرانهم من ثوار شباب المجتمع المدني, عبر أيام ثورة يناير المجيدة, هو الذي دفع عقلاء الإخوان المستنيرين منهم إلي أن طرحوا في الميدان مشروع حزبهم الجديد الحرية والعدالة وهو حزب مدني فيما يصفونه, ومرجعيته إسلامية فيما يؤكدون وهو أمر لم ينكره أنصار الدولة المدنية الذين رأوا فيه صيغة موازية لصيغة حزب الرفاه في تركيا الحديثة, فضلا عن أنهم لم يزعموا أن الدولة المدنية معادية للأديان, بل علي النقيض من ذلك ولولا صدق ما أقول ما وجد المتطرفون دينيا موئلا سياسيا لهم في إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا, وكلها دول مدنية,لا تنفصل صفتها المدنية عن احترام الأديان والمعتقدات. ولأن مصر منطوية علي ذلك في تراثها الليبرالي, ما اجتمع الهلال مع الصليب في شعارات ثورة 1919, ولا رفع الثوار شعار: الدين لله والوطن للجميع الذي يؤكد معني المواطنة الحقة في بعدها الديني ولكن يبدو أن تحطم الفكر الليبرالي المصري بمطارق الدولة الاستبدادية, ذات الحزب الواحد, والزعيم الأوحد, منذ مارس 1954, هو الذي سمح, إلي جانب عوامل أخري, بتشظي شعار ثورة 1919, خصوصا مع تحالف السادات مع تيارات الإسلام السياسي ومنذ ذلك الوقت, بدأ مفهوم الوطنية والمواطنة في التآكل, وتصاعد تدريجيا نوع من التمييز غير المباشر, أدي إلي ما نراه بأعيننا من احتقان وفتن طائفية لم يكن من الممكن أن تظهر قبل السقطة الساداتية التي لم ينقذنا منها نظام مبارك, بل أسهم في إغراقنا فيها. ولذلك كنت مندهشا عندما قام البعض في مناقشات الأزهر, حول الوثيقة, من هجوم مفاجئ علي مصطلح الدولة المدنية وتصويره تصويرا سلبيا من الواضح أنه ترك بعض الأثر وظني أن حكمة الدكتور أحمد الطيب هي التي جعلته يستبدل بكلمة المدنية كلمة الوطنية, فأصبحت الجملة الموجودة في الوثيقة المعلنة دولة وطنية ديمقراطية حديثة كي يحفظ التوافق الذي تعاهدنا عليه, فقد اتفقنا منذ البداية علي أن الهدف من نقاشنا حول مستقبل مصر, هو التوافق وليس الإجماع أو الاتفاق علي رأي واحد, والتوافق يعني موافقة الأغلبية, وليس إجماعها هذا هو السبب في أنني عندما استمعت إلي جملة دولة وطنية ديمقراطية حدثية لم أرفضها من منطلق التوافق أولا, ولأن الجملة لا معني لها سوي الدولة المدنية الحديثة في النهاية, أو الدولة المدنية الرشيدة التي قصد إليها الدكتور سيد طنطاوي رحمه الله, وإلا فما هي دولة المواطنة التي لا تمييز فيها بين المواطنين علي أساس ديني أو اعتقادي أو اجتماعي, وما معني صفة الديموقراطية الحديثة إلا الفصل بين السلطات وتداول السلطة والتعددية الحزبية وتأكيد حق الاختلاف والاعتراض والتعبير عن الرأي ولذلك وصفت الأهرام وثيقة الأزهر بأنها وثيقة تؤكد وجود الدولة المدنية وهذا صحيح إلي أبعد حد ولم تكن الأهرام استثناء في ذلك فقد حذت حذوها أغلب الجرائد, فلا معني للدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة سوي الدولة المدنية الحديثة أو الدولة المدنية الرشيدة تمييزا عن ما يمكن أن يكون دولة مدنية ظالمة أو فاسدة أو معادية للأديان والحريات في آن. نقلا عن صحيفة الاهرام