الغربيون قلقون, ولهم الحق, علي مسيحيي الشرق الأوسط الذين يتعرضون في هذه الأيام لأخطار حقيقية تضطرهم للنزوح الجماعي إلي خارج بلادهم, كما ذكرت صحيفة الوموندب الفرنسية قبل أسبوعين, وهو الموضوع الذي علقت عليه في مقالتي السابقة. وسوف أنتهز هذه الفرصة لأوضح بعض الجوانب في هذا الموضوع الذي يتحدث فيه الغربيون كأنهم مجرد مراقبين يتابعون بإشفاق ما يجري في بلاد بعيدة منكوبة بالتطرف والتخلف, مع أنهم أقصد الغربيين هم الفاعل الأصلي فيما نتعرض له نحن مسلميين ومسيحيين علي أيدي الجماعات الإسلامية المتطرفة, وأيدي الذين كانوا سببا مباشرا في ظهورها واستفحال خطرها وهم الإسرائيليون, ومن يقفون وراء الإسرائيليين. وأنا لست من هؤلاء الذين لا يطيقون الاعتراف بأخطائهم ويتهربون من تحمل التبعات ويعلقون أخطاءهم علي مشاجب الآخرين. فمن المؤكد أننا مسئولون عما حدث لنا وعما يحدث, نحن الذين تنكرنا لمبادئ النهضة التي أرساها آباؤ نا بعرقهم ودمائهم, وأضاءوا بها طريقنا الذي لم نواصل السير فيه. تنكرنا للدستور, والديمقراطية, والدولة المدنية, والعقلانية, واستجبنا لعواطفنا الساذجة وخرافاتنا الموروثة, وركضنا خلف شعارات كاذبة لم تثبت لأي امتحان, وتنازلنا عن حقنا المشروع في رسم سياساتنا ومواجهة مشكلاتنا واختيار حكامنا ومحاسبتهم, غير أن أخطاءنا أو معظمها كانت ردود أفعال طائشة علي ما يخططه الغربيون وينفذونه, وهم يملكون كل أدوات التخطيط والتنفيذ. كانوا يفعلون ويتوقعون ما سوف نفعل. نعم, الغربيون وأقصد القوي الاستعمارية الغربية هم الفاعل الأصلي فيما نتعرض له علي أيدي الإسرائيليين من ناحية, وأيدي المتعصبين المتطرفين من ناحية أخري, وإسرائيل هي الشر الأول الذي نتجت عنه كل هذه الشرور. قبل أن تقوم إسرائيل كانت الثقافة السياسية في مصر أقصد ثقافة النخبة والطبقات المتأثرة بها هي ثقافة الدولة المدنية, والنظام الديمقراطي, والرابطة الوطنية التي جمعت المصريين وساوت بينهم, وألهمتهم شعارهم المقدس الدين لله.. والوطن للجميع. ويكفي أن نراجع أسماء الزعماء الذين قادوا حركة الاستقلال مع سعد زغلول لنجد فيهم مكرم عبيد, وسينوت حنا, وجورج خياط, وواصف غالي, وويصا واصف, ومرقس حنا, وفخري عبدالنور, وسلامة ميخائيل, وراغب اسكندر وسواهم وسواهم ممن انخرطوا في ثورة1919 ووقفوا مع أشقائهم ومواطنيهم المسلمين في وجه المحتلين الإنجليز, وتعرضوا معهم للسجن والنفي والموت, وشاركوهم في حكم بلادهم وفي القيام بما تطلبته النهضة من عمل, وما فرضه الاستقلال واللحاق بالمتقدمين من واجبات, ولقد كان المرشح المسيحي ينجح في حي السيدة زينب لأنه ينتمي للحزب الذي تؤيده غالبية سكان الحي, كما كان المرشح المسلم ينجح بالمثل في حي شبرا. كان الناخبون يؤدون للوطن حقه ولا يسألون عن الدين. وما يقال عن حضور المسيحيين في النشاط السياسي يقال عن حضورهم في النشاط الأدبي والفني. نجيب الريحاني لم يكن يضحك المسيحيين وحدهم في المسرح, بل كان يضحك المصريين جميعا مسلمين ومسيحيين. وشفيقة القبطية لم تكن ترقص للأقباط فحسب, كما لم تكن تحية كاريوكا تميز في جمهورها بين المسيحي والمسلم. ولقد تلقي نجيب محفوظ نصف ثقافته من سلامة موسي, وتلقي جيلي نصف ثقافته من لويس عوض. والذي يقال عن المسيحيين يقال عن اليهود, وإن كان وضعهم مختلفا, لأن معظم اليهود الذين عاشوا في مصر خلال القرنين الماضيين كانوا مهاجرين قدموا من روسيا, وإيطاليا, وألمانيا, وعاشوا في مصر كما يعيش الأجانب يمارسون نشاطهم الاقتصادي خاصة, ولا يشاركون إلا بقدر محدود في الحياة العامة التي رحبت مع ذلك وشجعتهم علي المشاركة الاندماج. ونحن نعرف أن وزير مالية مصر في عشرينيات القرن العشرين كان يهوديا مقربا من القصر الملكي وهو يوسف قطاوي باشا, ونعرف أن عددا كبيرا من زعماء اليسار المصري كانوا يهودا ومنهم هنري كورييل, ومارسيل إسرائيل, وهيليل شوارتز, ويوسف درويش, وريمون دويك. ولقد كان الحاخام الأكبر حاييم ناحوم حاضرا دائما في المناسبات الرسمية, إلي جانب البطريرك وشيخ الأزهر, وكان عضوا في مجمع اللغة العربية. أما مراد بك فرج محامي القصر الملكي فكان شاعرا ينظم قصائده باللغة العربية. ونحن نعرف المكان الرفيع الذي احتله الفنانون المصريون اليهود من أمثال داود حسني, وزكي مراد, وليلي مراد, ومنير مراد, وراقية إبراهيم, وكاميليا, ونجوي سالم, وسواهم. والذي يقال عن ثقافة التسامح والمواطنة والديمقراطية في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين يقال عنها في لبنان, وسوريا, والعراق, وتونس, والجزائر, والمغرب. المسيحيون اللبنانيون لعبوا دورا رائدا في إحياء الثقافة العربية, والمسيحيون السوريون تزعموا الدعوة للقومية العربية التي حلت محل الجامعة الإسلامية, وتاريخ العراق علي الرغم من كل شيء هو تاريخ التعايش بين المسلمين الشيعة والسنة, وبينهم وبين المسيحيين, والصابئة, والزرادشتيين, واليهود لم يستقروا في بلد من بلاد العالم, كما استقروا في المغرب. لكن ثقافة الدولة المدنية, والديمقراطية, والمواطنة, وفصل الدين عن الدولة التي رفع الغربيون أعلامها لم تكن تهمهم بقدر ما يهمهم بترول الشرق الأوسط ومستعمراتهم فيه وقواعدهم العسكرية. ومن هنا قدم اللورد بلفور وزير خارجية بريطانيا في نوفمبر1917 وعده لليهود بمساعدتهم في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين لم يكن إلا تجسيدا لأسطورة دينية, فإذا كانت ثقافة التسامح الديني والديمقراطية وفصل الدين عن الدولة قد تلقت الطعنة من أصحابها الأصليين, فمن السهل أن تتنكر لها شعوب الشرق الأوسط التي فقدت شعورها بالأمن بسبب الوجود الإسرائيلي, كما فقدت ثقتها بالغرب وثقافته, ولجأت إلي ثقافتها الموروثة تبحث فيها عن ملجأ آمن, وإذا كان اليهود قد عادوا إلي فلسطين ليستعيدوا فيها ملك سليمان, فالرد التلقائي لدي المسلمين هو إقامة دولة دينية يطبقون فيها الشريعة ويستعيدون أيام الخلفاء الراشدين! نقلا عن صحيفة الاهرام المصرية