عندما يحقق عمل فنى أرقاما استثنائية لا تستند إلى قيمة إبداعية عليك أن تبحث عن الأسباب الاجتماعية التى من أجلها قطع الجمهور التذكرة إلى هذا الفيلم أو تهافت على شراء تلك الأغنية. الرقم هو اعتراف لا يحتمل أى شك بأن هذا المصنف الفنى قد أقبل عليه الناس.. لا يعنى هذا بالطبع أن الرقم هو العنصر الوحيد الحاسم ولا هو أيضا الأهم، لكنه واحد من المؤشرات التى من الممكن أن ترشدنا إلى حالة المجتمع.
أهم ثلاثة أرقام سينمائية فى السنوات الخمسة عشر الأخيرة تحققت على التوالى مع «إسماعيلية رايح جاى» 1997، وبعدها «اللمبى» 2002، وهذه الأيام «عبده موتة» 2012.
دلالات الأرقام تعنى تغييرا فى مزاج الناس.. كان عادل إمام باعتباره أكثر نجوم السينما انشغالا بالإيرادات ومتابعتها هو أول من تنبه إلى أن هنيدى فى «إسماعيلية» حقق قفزة استثنائية حملت دلالة، فلقد كان معدل عادل فى الشباك يضعه مطمئنا فى المركز الأول طوال عقدين من الزمان برقم 7 ملايين جنيه، فاكتشف أن هنيدى وصل إلى 15.. ورغم أن اسم محمد فؤاد فى هذا الفيلم كان متصدرا الأفيش، فإن تلك الإيرادات حُسبت فقط لمحمد هنيدى الذى انتقل على الفور إلى «صعيدى فى الجامعة الأمريكية»، محققا ذروة رقمية أعلى. نعم فقد بعدها هنيدى بسنوات قليلة البوصلة وانهارت إيراداته، ولكن هذه قصة أخرى.
تستطيع أن تجد فى دلالات الرقم أن شفرة التعامل فى الشارع قد تغيرت وظهر جمهور آخر «روش» صار له قاموسه المختلف فى أسلوب التخاطب وفى إدراكه للمعانى والإيحاءات، وأن هذا الجمهور يريد من يتحدث بلسانه ويهضم مفرداته، ووجد أن هنيدى هو الأقرب إليه، وهكذا التقط عادل إمام بذكاء ما حدث فى الشارع وقرر أن يعيد التواصل وانتقل إلى الكاتب يوسف معاطى، الذى أصبح يشكل معه ثنائيا، لأن معاطى يعرف أكثر هذا الجيل ويدرك الأبجدية الجديدة التى سيطرت على الشارع ولا أعنى فقط دلالات الكلمات، ولكن لغة التعبير بالجسد الإيماءة والحركة قد تغيرت، كان عادل حريصا على أن يوجد معه عدد من الشباب، كما أنه انتقل إلى جيل أحدث من المخرجين أكثر قدرة على التقاط ملامح الزمن.
فى 2002 كان هناك نجم رقمى آخر يتم تصعيده بعد أن خفتت جاذبية هنيدى ووثب محمد سعد فى «اللمبى» إلى القمة الرقمية. إنه الكوميديان الإيجابى الذى لا يخشى المعارك مهما تركت بصماتها على وجهه.. اللمبى أسهم محمد سعد فى رسم ملامحه والتقط جزءًا من الشارع، وأضاف تفاصيل وتلامست مع الناس ثم خنق اللمبى محمد سعد، ولكن هذه قصة ثانية.
فيلم «عبده موتة» هو القفزة الأخيرة التى صعدت إلى السطح مع احتلال شخصية البلطجى فى الحياة لتلك المساحة فى أعقاب الثورة.. محمد رمضان هو أقرب النجوم لتجسيدها، ولكن الأمر يحتاج إلى صنايعى يضبط الطبخة على مزاج الجمهور، وجاء أحمد السبكى وصنعها طبقًا للمواصفات القياسية، ولكن النجاح الرقمى الذى يستند إلى مؤشر اجتماعى ينبغى التعامل معه بحذر، لأن الرقم هنا يدخل فى تحقيقه مزاج عام لا يعرف أبدا الثبات.
هناك بالفعل إبداعات فنية وفى كل المجالات لها حس جماهيرى وأخرى تفتقد نبض الناس، فيلم عظيم مثل «المومياء» لشادى عبد السلام والذى يحتل دائما المركز الأول فى أغلب استفتاءات أفضل الأفلام المصرية ولا يهبط أبدا إلى المركز الثانى.. «المومياء» ليس فيلما تجاريا وجماهيريته تظل محدودة، لكنه يكتسب مع الزمن أرضا جديدة.. بعض الأغانى قد تفتقد فى بداية ظهورها الانتشار.. قبل أكثر من عشرين عاما مثلا قدم محمد عبد الوهاب أغنية «من غير ليه» وغنى مطرب مجهول اسمه حمدى باتشان «الأساتوك» وزعت «الأساتوك» خمسة أضعاف «من غير ليه»، ولم تمر سوى أعوام قليلة ونسى الناس تماما «الأساتوك»، وظلت «من غير ليه» لها مكانتها.
هناك بالتأكيد أعمال فنية تجارية تنجح فى اللحظة وتشتعل مرة واحدة لتنطفئ تماما بعدها، وعلى المقابل لدينا أعمال فنية قادرة على الحياة على الاشتعال الدائم. لهذا نقول احذروا من الأرقام فى بعضها سُم قاتل. ويبقى سؤال هل هذا هو الفن الذى ننتظره بعد ثورة 25 يناير؟ وهل الثورات تُسقط من ذائقة الناس التعاطى مع الفن الردىء وتلك أيضا قصة ثالثة!!