في عام 2004 ومن جامعة هارفارد الأمريكية؛ خرج إلى الوجود مشروع الفيسبوك على يد أحد الطلاب النابغين هو مارك زوكربيرج، وبمجرد ورود أخبار إنشاء الموقع وذيوع صيته؛ انهالت عليه العروض الاستثمارية لشراء الموقع، الذي تصاعدت قيمته من 500 مليون دولار إلى 8 مليار دولار، المهم أن الشاب صاحب الموقع الإلكتروني الأشهر في العالم صرّح بأنه لن يبيع الموقع مهما كان إغراء السعر المعروض.. وها هي بعض الحقائق عن الفيسبوك: يبلغ عدد المشتركين؛ أي الذين لهم حسابات أو صفحات على الفيسبوك، في العالم حوالي 800 مليون مشترك حسب آخر إحصاء في 2011. نسبة كبيرة منهم في عمر الشباب، أي من 18 – 25 سنة. بعض الدول حظرت الفيسبوك لبضع سنوات؛ خوفا من تأثيره على الشباب، فيقوموا بحركات مناهضة لنظام الحكم، مثل سوريا وإيران. يتعدى عدد المشتركين في مصر 12 مليون مشترك، والسعودية 5 مليون، وإجمالي المشتركين من الدول العربية حوالي 33 مليون، أي 10 ٪ من إجمالي عدد السكان. لعب الفيسبوك دورا مهما في اندلاع ثورات البلاد العربية ضد أنظمة الحكم فيها، في تونس ومصر وسوريا. ففي مصر؛ لا يستطيع أن ينكر منصفٌ أن لصفحة (كلنا خالد سعيد) أثرٌ بالغ في تحفيز شباب ثورة 25 يناير، وكان اتصال من نزلوا في مظاهرات يوم 25 يناير عبر الفيسبوك عاملا مؤثرا في شحذ هممهم، وتأكيد إصرارهم على التجمع والقيام بالمظاهرة التي قصمت ظهر النظام الحاكم. ولأن لا شئ في عالم اليوم يأتي مصادفة أو بلا داع؛ دعونا نلقي نظرة على صفحة مستخدم مصري للفيسبوك، عشر دقائق تستغرقها قراءتنا لصفحته، بعدها نكون قد عرفنا سيرته الذاتية وتقريبا كل شئ عنه.. فقد عرفنا تاريخ ميلاده وجنسيته، وفي أي مدرسة ابتدائية وثانوية كان، وفي أي كلية أو جامعة تخرج، ووظيفته وما هو تخصصه، وما هي الشهادات العلمية التي حصل عليها ومن أين جامعة في أي بلد، وعرفنا أسماء أفراد أسرته واطلعنا على صفحاتهم، ورأينا صوره في طفولته وفي شبابه وعند زواجه، وإن سافر في رحلة ما؛ سنعرف أين كان ونرى صوره التي حمّلها على الفيسبوك، ومن خلال قراءتنا لصفحته عرفنا توجهه السياسي، واطلعنا على آرائه ومعتقداته وعلاقاته وأنشطته، وماذا ومن يحب، وماذا ومن يكره، هل هو إخوان.. سلفي.. ناصري.. أناركي.. ليبرالي.. ماركسي.. ومن قراءتنا لمشاركاته عرفنا طريقته في التعبير ولغته وبلاغته، ومستوى ذكائه أو غير ذلك، وببعض الدراسة لطريقته يستطيع خبير في التحليل النفسي وصف شخصيته؛ انهزامي.. ثوري.. هجومي.. مرح.. كئيب..متدين.. مهرج.. جاد.. رومنسي.. صارم.. قد يقول قائل: وماذا أفدنا من معرفة هذه المعلومات عن شخص اخترناه بطريقة عشوائية ؟ والإجابة: قد لا نستفيد نحن كأشخاص عاديين، وقد يكون لنا نحن أيضا حسابات على الفيسبوك، ولكن الحقيقة الصادمة هي أن هذه المعلومات ومثلها كانت عبر العقود السابقة هي ما يسعى الجواسيس إلى جَمْعه.. أقول لك.. تعال إلى القصة من أولها.. هل تذكر حضرتك أفلام مثل الصعود إلى الهاوية وبئر الخيانة وإعدام ميت؟ أفلام الجاسوسية التي شغلت بها السينما المصرية أدمغتنا لفترة طويلة ؟ كان الهدف منها أن تبين لنا مدى ذكاء أجهزة المخابرات عندنا، ومدى غباوة وهبل جهاز المخابرات الإسرائيلي، وكانت المعلومات المطلوبة من الجاسوس هي صور للمواقع العسكرية البرية والبحرية، وتحركات القوات في الموانئ والمطارات وعلى خطوط التماس، ومن ناحية أخرى مطلوب منه كتابة وإرسال تقارير عن الحالة المعنوية لشرائح وطبقات الشعب المختلفة، كطلبة الجامعة والموظفين والعمال، كيف يفكرون وما هي طموحاتهم وآمالهم وحالتهم المادية والأزمات التي تقع في مجتمعهم، ومدى ثقتهم في الجيش وعلاقتهم بجهاز الحكم والشرطة، وإلى أي حد يصل تدينهم، وو.. وقد تكون حضرتك تقرأ هذا المقال الآن على الفيسبوك ! لا أريد أن أصدّع دماغ حضرتك بالكتابة عن نظرية المؤامرة والماسونية والتنويريين، ولكن ألا ترى معي أن ما كان مطلوبا من الجواسيس زمان، أصبح في متناول يد المستخدم العادي للإنترنت، ناهيك عن أن يكون في أيدٍ خبيرة، وتحت عيون أجهزة مخابرات؟ أما بالنسبة للجزء العسكري الأول فمستخدم الإنترنت العادي يستطيع أن يشاهد بعينيه تفاصيل كل الوحدات العسكرية والدفاع الجوي والمطارات باستخدام برنامج Google Earth للهواة، فما بالك بمن يستخدم بثه الحيّ استخدام المحترفين؟ أما بالنسبة للجزء الثاني المطلوب من الجاسوس؛ فلا داع أصلا لإرسال جواسيس، فالفيسبوك وتويتر والمدونات قامت بهذا الدور، والمشتركون يدلون بكل المعلومات المطلوبة عنهم دون جواسيس، والمدونون يكتبون آراءهم عن الحالة المعنوية والاقتصادية في البلد، وهم صوت الشعب المغلوب على أمره ولا يستخدم الإنترنت، فيدونون مشاكله ومعاناته وإدارات المخابرات تحلل وتدرس وتستنتج، وتقرر وتوجه وتشعل وتطفئ، وترخي وتشد، وبلاش دوشة الجاسوسية، والجاسوس اللي اتمسك يبقى نهاره إسود وياخد إعدام، وتبقى جُرسة لجهاز المخابرات الذي يعمل له الجاسوس. حكاية الفيسبوك هذه ذكّرتني بقصة طريفة مريرة، ذات مرة كنت في سيارة أجرة على طريق الإسكندرية الزراعي، وبعد قليوب بعدة كيلومترات، نادى السائق: حد نازل المطار السري ؟ حد نازل المطار السري ؟ رنّت الكلمات في أذني، فكيف يكون المطار سرياً والسائق والركاب يعرفون مكانه، بل أصبح علامة على الطريق ! وسألت السائق: إيه حكاية المطار السري دي ؟ فقال لي إنه من المطارات التي دكّتها إسرائيل في حرب 67، وكان المقيمون في المنطقة قبل قصف المطار يعرفون مكانه ويتندرون: إنت ساكن فين ؟ عند المطار السري.. نتقابل فين؟ عند بوابة المطار السري..! جميعنا نعلم أن صورنا وآراءنا وسِيَرنا مجموعة في ملفات وقاعدة بيانات هائلة، وجميعنا ندرك خطورة المعلومات التي أدلينا بها على الفيسبوك وتويتر والمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، ومع ذلك وضعناها بمحض إرادتنا، وكامل موافقتنا، جميعنا نعلم مكان المطار، ولكنه سيبقى (المطار السري).. إسلمي يا مصر.