هكذا شاءت الحماقة والفساد والتآمر أن يتحول أعز وأغلى جزء من مصر إلى جسم غريب يجري التعامل معه أمنيا فقط، ويتحول أهله إلى غرباء! هكذا تتحول سيناء أمام أعين المصريين فيها وفي كل مكان من أرض مصر. الجميع يعرف أهمية سيناء تاريخيا، ويعرف أيضا أنها لأسباب كثيرة تحولت إلى ملف أمني حول سكانها بدوره إلى لاجئين وغرباء وجواسيس يجري التعامل معهم وفقا لحسابات عنصرية. والتاريخ القريب جدا يعرض لنا ما يجري في سيناء من مهازل حقيقية بدأت بعمليات "نسر 1" و"نسر 2" بعد أن غزتها الخلايا النائمة بأعلامها السوداء والتي ما لبثت أن هبت من نومها رافعة راية الجهاد في ظل إضعاف الدولة وتفتيتها وتفكيكها. في 18 سبتمبر 2012 نشرت صحيفة "المصريون" خبرا خطيرا هذا نصه: "وجه مجهولون إنذارًا لجميع المسيحيين المقيمين فى شبه جزيرة سيناء بمغادرتها، مما تسبب فى حالة من الرعب بين أقباط سيناء، بعد تحذيرهم بأنهم إن لم يغادروا خلال 48 ساعة فقط سوف يرون ما يكرهونه". وبعد يومين فقط في 20 سبتمبر نشرت صحيفة "البشاير" خبرا آخر: " تعرضت مدرسة الإمام علي الإعدادية للإناث في مدينة رفح المصرية الى اعتداء من قِبل مجموعة من الشباب البدو، اعتلوا سور المدرسة ومن ثم تسللوا الى الفصول خلال اليوم الدراسي فاقتحموها، وراحوا يتحرشون بالتلميذات والمعلمات كما قاموا بالتلفظ أمامهن بكلمات نابية وخادشة للحياء وبتصويرهن بأجهزة هواتفهم المحمولة، مما دفعهن الى الصراخ طلباً للنجدة". وفي نفس اليوم نشرت صحيفة "المصري اليوم" عن أحد المواقع الإلكترونية: "ساعات قليلة تبقت من المدة الزمنية التي منحها معلم التجويد، الشيخ المصري أحمد عامر لحكومة بلاده لاستبدال العلم الحالي بعلم يحمل كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" عوضأً عن النسر، وكان قد هدد في برنامجه "مع القرآن" في 7 سبتمبر الجاري بحشد الملايين في الشوارع".
وفي نفس يوم 20 سبتمبر، قال وزير الخارجية محمد كامل عمرو إن الوضع في سيناء تحت السيطرة المصرية، نافيا أي مخاوف مما يجري فيها ومؤكدا أنه ليس من اختصاص مجلس الأمن أو أي جهة مناقشة هذا الأمر باعتباره شأن داخلي مصري. وقال عمرو، في تصريحات صحفية، الخميس 20 سبتمبر، ردا على سؤال حول ما تردد عن قيام إسرائيل بتوجيه خطاب رسمي لمجلس الأمن تحذر فيه من تدهور الوضع الأمني في سيناء: "إننا أوضحنا هذا الموقف ونوضحه باستمرار لكل الأطراف دون أي لبس"، مشددا على أن "أمن سيناء شأن داخلي مصري لا يناقش في أي محافل دولية أو مجلس الأمن، فالمجلس يهتم بالأوضاع التي تؤثر على الأمن الإقليمي والدولي". وأشار وزير الخارجية إلى أنه "في المرحلة الحالية ليس هناك أي نية لإحداث تعديل على الاتفاقية، ولكن إذا كانت المرحلة القادمة تتطلب ذلك سيتم التعديل. ولكن الآن يتم التعامل مع الاتفاقيات التي وقعتها مصر كما هي".
المشهد في سيناء الآن يتلخص في جهاديين ملثمين وتفجيرات وقتل لأفراد الشرطة والقوات المسلحة وتهديدات للأقباط واعتداء على مدارس الفتيات واعتقالات واشتباهات واتهامات، ثم تهديدات بتغيير علم مصر، وينتهي بتداعيات خطيرة وراء تصريحات وزير الخارجية المصري. كل ذلك والوضع كما هو عليه ولم يتغير أي شيء من أحوال سيناء ولا أحوال المصريين فيها. إذن، فماذا يعني كل ذلك؟
كل الشواهد تشير إلى أن سيناريو "النسق الأفغاني" يسير في بطء في مصر. وحركة هذا السيناريو المتحرك مرتبطة بحركة نجاح تيارات الإسلام السياسي (المعتدلة والمتشددة والمتطرفة والجهادية والإرهابية) في تفكيك الدولة المصرية والتعجيل بانهيارها ، ومن ثم إعادة بنائها وفقا لتصورات الإسلام السياسي وفي إطار مشروع الخلافة تحت راية "التوحيد". ومن الواضح أن عبارة وزير خارجية مصر: "فالمجلس يهتم بالأوضاع التي تؤثر على الأمن الإقليمي والدولي" هي مفتاح الغرفة المغلقة. فكل ما يجري في سيناء الآن يحولها إلى منطقة ساخنة تمثل خطرا على الأمن المصري والإقليمي والدولي: مجموعات إرهابية تعتدي على القوات المسلحة المصرية وتهدد السكان المحليين مسلمين وأقباط، والتحريض على/ واستخدام العنف ضد الأطفال والمرأة عموما، وتهديد أمن دولة مجاورة.. فهل هناك أفضل من ذلك ليكون "مسمار جحا" لمجلس الأمن أو للولايات المتحدة أو لإسرائيل؟!!
في الواقع، قد لا نكون من أنصار نظرية المؤامرة، ولكن يمكن أن نفترض جدلا أننا من أنصار نظرية الأفغنة. أي سيناريوهات تطبيق النسق الأفغاني في دول أخرى. إذ أنه من الصعب تكرار عملية الأفغنة بحذافيرها، بل يمكن وضع سيناريوهات متحركة على النسق الأفغاني، وقد رأينا، وما زلنا نرى، أحدها بالفعل في العراق. وما يحدث في ليبيا منذ القضاء على ثورة الشباب ضد النظام القمعي المتخلف لمعمر القذافي (بدءا من تاريخ أول مؤتمر صحافي في 28 فبراير 2011 في بنغازي للمجلس الوطني الانتقالي والذي اعترف فيه عبد الحفيظ غوقة بأن المجلس على اتصال بوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون) يمثل أيضا سيناريو متحركا على النسق الأفغاني. والمثير هنا أن التاريخ لا يتوقف عند الدروس المستفادة والتحذيرات. وكثيرا ما تتكرر بعض الأمور التي تؤكد تكرار ليس التجربة بالضبط، وإنما أحد وجوهها، وهو ما نطلق عليه النسق. ولنتذكر جيدا من كان يقوم بتمويل المجاهدين الأفغان في ثمانينيات القرن العشرين، ومن كان يرسل مجاهديه ومواطنيه للحرب ضد الإلحاد السوفيتي، ومن كان يقدم السلاح والدعم الاستخباراتي والمالي أيضا!
وإذا أخذنا ليبيا كمثال، فقد اعترفت المخابرات الأمريكية أخيرا بأن الهجوم على القنصلية في بنغازي كان عملا إرهابيا، حيث قتل السفير الأمريكي في ليبيا كريستوفر ستيفينس وشون سميث الموظف بإدارة الصحافة التابعة للخارجية الأمريكية، إضافة لاثنين من مشاة البحرية الأمريكية كانا يقومان بحراسة السفير. وجاء الاعتراف على لسان رئيس المركز القومي لمكافحة الإرهاب ماثيو أولسن في جلسة الاستماع بمجلس الشيوخ الأمريكي يوم الأربعاء 19 سبتمبر. وعلى الرغم من أن المسؤول الأمريكي أكد بأن الموظفين الأمريكيين قتلوا في هجوم إرهابي على القنصلية، إلا أنه أشار إلى عدم امتلاكه أدلة تثبت وجود أي تخطيط مسبق للهجوم. بل وأعلن أن "الأحداث تطورت بشكل عشوائي وأن المسلحين الذي استهدفوا القنصلية، كما يبدو، انتهزوا الفرصة السانحة لهم".
وفي يوم الخميس 20 سبتمبر، أي بعد يوم واحد فقط من اعتراف المسؤول الأمريكي وبعد 9 أيام من العملية، تقدم وزير الخارجية الليبي عاشور بن خيال بإعتذار لوليام بيرنس نائب وزيرة الخارجية الأمريكية الذي وصل إلى طربلس في زيارة تتضمن لقاءات مع كل من رئيس وزراء ليبيا الجديد مصطفى أبو شاقور ورئيس المؤتمر الوطني الليبي محمد المقريف.
تساؤلات كثيرة ستظل تتردد في هذا الشأن من قبيل هل كانت احتجاجات الليبيين في 11 سبتمبر 2012 أمام مبنى القنصلية الأمريكية في بنغازي على فيلم "براءة المسلمين" ضخمة إلى ذلك الحد الذي سمح بقصف القنصلية الأمريكية بالقنابل؟ وماذا يعني المسؤول الأمريكي بعبارة "الأحداث تطورت بشكل عشوائي"؟ هل يعني أن السفير وموظف إدارة الصحافة والعسكريين الأمريكيين قتلوا بطريق الخطأ؟ وهل كل ذلك يعني أن المخابرات والسفارات والقنصليات الأمريكية على اتصال بعناصر المنظمات أو المجموعات الإرهابية الجهادية، أو في أحسن الأحوال على اتصال مع عملاء لها داخل هذه المجموعات يقومون بتوضيح الأمور؟!
في كل الأحوال، لقد قام وزير الخارجية الليبي شخصيا بتقديم اعتذاره لنائب وزيرة الخارجية الأمريكية. ولكن هل يعتبر ذلك نهاية الموضوع، أم أن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية ستظل تعمل على أراضي ليبيا وبقية الدول التي تأفغنت مثل باكستان والعراق للعثور على قتلة الدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين؟ وماذا ستكون طبيعة عمل أجهزة الاستخبارات الأمريكية في ليبيا، ومع من ستتصل، وبمن ستستعين؟ وهل يمكن أن نعتبر مقتل الدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين مسمار جحا في ليبيا؟ علما بأن مشاة البحرية الأمريكية أصبحوا متواجدين الآن في غالبية الدول التي تم الاعتداء فيها على السفارات الأمريكية بعد مسخرة التداعيات المثيرة للتساؤلات للفيلم التافه والهابط المسيء للرسول. بل ولا يخفى على أحد أن نشاطات أجهزة الاستخبارات وعملائها تزايدت بحدة منذ يناير 2011، وتضاعفت الآن بعد الاعتداء على السفارات الأمريكيةوالغربية. وهذا ما يجعلنا نعتقد أن عناصر الاستخبارات الأمريكية تتواجد وتعمل بنشاط محموم في كل دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط ويمكن رؤية هذه العناصر بالعين المجردة!!
من جهة أخرى وفي حديث لرئيس لجنة الشؤون الدولية في المجلس الفيدرالي الروسي ميخائيل مارجيلوف مع وكالة أنباء (إيتار – تاس) الروسية"، قال "أنا اتفق مع الخبراء الذين يعتقدون أن المملكة العربية السعودية وقطر تقفان خلف الاحداث في سورية وفي العالم العربي". وأضاف: "إن الأنظمة الدكتاتورية العلمانية في بلدان الربيع العربي، ومنها مصر وتونس قد دخلت في طريق مسدود حيث لم تفلح في إنجاز التحديث. وفي النتيجة ساعدت بصورة مباشرة أو غير مباشرة على أسلمة بلدانها والمنطقة عموما". وأكد ما رجيلوف أن "هذه الانظمة خلقت وضعا قررت فيه غالبية السكان أن الرجوع إلى العقيدة الدينية فقط يمكن أن يحسن معيشتهم. وغدا هذا الأمر الاتجاه الرئيسي في شمال أفريقيا والشرق الأوسط".
وذهب مارجيلوف إلى أن "البلدان الغربية ولاسيما واشنطن قررت الارتكاز على من يسمون بالمسلمين المعتدلين في العالم الإسلامي وليس على المتشددين. وقررت الولاياتالمتحدة لدى نشرها الديمقراطية عدم السير ضد التيار بل ركوب موجة العمليات الجارية. ولهذا الغرض وجب دعم الإسلاميين المعتدلين المتنفذين. وأصبح من الصعب الآن الجزم بما ستؤول إليه سياسة الغرب هذه. ومن المحتمل أن تعم الفوضى التي ستصبح نمط الحياة في جزء من العالم الإسلامي. ويجب ألا ننسى أن المتطرفين قد يوجهون لدى الضرورة السلاح ضد الإسلاميين المعتدلين".
قد نختلف مع مارجيلوف في وصفه للأنظمة الديكتاتورية في بلدان الربيع العربي بالعلمانية، لأننا نرى في ذلك استسهالا وتعاملا سياسيا ساذجا مع المفاهيم والمصطلحات والوقائع التاريخية. ونرى أيضا أن المتطرفين لا يوجهون أسلحتهم فقط إلى الإسلاميين المعتدلين، بل وأيضا إلى المواطنين الذين يخالفونهم في الرؤية والدين والثقافة. ولكن هذا ليس جوهر الموضوع بالضبط وإن كان ذلك أمرا مهما للغاية، إذ أن الصراع يدور بين أنظمة ديكتاتورية رعت الإرهاب في فترات تاريخية وبين مجموعات إرهابية تلقت دعما إقليميا ودوليا لتنفيذ أجندات جيوسياسية وجيواقتصادية. والطريف هنا، هو أن غالبية قادة "الإسلام المعتدل حاليا كانوا يناصرون ويدعمون ويساندون تلك المجموعات الإرهابية الجهادية في تلك الفترات التاريخية، بل ويغازلونهم على الدوام حتى بعد أن وصلوا إلى السلطة. ولا يمكن أن نستبعد أن تحدث صدامات جزئية وفقا لرؤية الراعي الأمريكي.
إن جوهر الموضوع هنا، هو أن الصراعات التي تضمنتها الأفغنة بشكلها الكلاسيكي في أفغانستان وبعناصرها، من حيث التمويل والتسليح والأفراد، تدور الآن في دول شاركت أنظمتها بطرق مختلفة في السيناريو الأفغاني الكلاسيكي. الأمر الآخر، هو أن نفس مصادر الإمدادات بالمال وبالأفراد وبالمعدات العسكرية والمعلومات الاستخباراتية هي نفسها ولكن الأحداث تدور في ليبيا وسوريا واليمن، وربما السودان، ومن قبلها في العراق.. وتدور أيضا في مصر ولكن بشكل بطيء نظرا لطبيعة المصريين وتحالفات القوى السياسية الوطنية والليبرالية واليسارية وطبيعة تركيبة الدولة التي تحتاج فترة أطول للتفكيك والانهيار الكامل. أما الأحداث الجارية في تونس، فهي لا تختلف كثيرا عن ما يجري في الدول السابقة، لكن الآلة الإعلامية المتنفذة ترى عدم التركيز على تلك الأحداث المأساوية حاليا. كما أن طبيعة الدولة في تونس ونشاطات القوى السياسية المعارضة للإسلام السياسي والتراكمات الاجتماعية والثقافية قد تلعب دورا هاما في عدم التعجيل بتحقيق النسق الأفغاني. ولكن الأوضاع في كل الأحوال، وفي ظل محاولات السيطرة الكاملة من جانب تيارات الإسلام السياسي سواء كان في السلطة أو خارجها، تتجه نحو فوضى غير خلاقة بالمرة تتسم بطابع الأفغنة، وما يجري في أفغانستانوباكستان من جهة، وفي العراق وليبيا وسوريا واليمن من جهة أخرى أكبر الشواهد على ذلك.