إبراهيم عيسى لا فرق سياسيا إطلاقا بين الرئيس والمشير. بالقطع مبارك كان أكثر قدرة سياسية وخبرة وحنكة، لكن المشير تشرب منهج تفكير وطريقة تصرف مبارك تماما. فالمدرسة واحدة، فهما ضابطان لم يعملا أبدا فى السياسة ولم يشتهر أيهما بالثقافة السياسية والتاريخية (يقال إن المشير يحفظ شعرا كلاسيكيا ويتذوقه)، لكن مبارك بدا أكثر دهاء والمشير يبدو أكثر ولاء، فكل ما نعيشه عبر عام مضى بعد تخلى مبارك عن الحكم يؤكد أن طنطاوى هو مبارك دون أن يخلع بذلته الكاكية. سأتوقف هنا عند موقفين فى يوميات الدكتور حازم الببلاوى وزير المالية السابق (نشرها فى كتابه الأحدث «أربعة شهور فى قفص الحكومة»)، فيروى الببلاوى «دُعِيت إلى اجتماع لمجلس إدارة الهيئة العامة للبترول، واستمرت الجلسة لساعات طويلة، وفى نهاية الاجتماع وقبل توجهى للانصراف، قدم لى مظروفا، فسألت: ما هذا؟ فقيل إن هذا بدل حضور الجلسة. فرفضت هذا الأمر رفضا باتا قائلا إننى فى نهاية الأمر موظف فى وزارة المالية، وأحصل على راتبى من هذه الوزارة مقابل القيام بعملى بما فى ذلك تمثيلها لدى الهيئات الأخرى. وتركت المكان دون أخذ المظروف. وفى اليوم التالى، رأيت أن هذا المبلغ هو حق لوزارة المالية، فطلبت من نائب الوزير المطالبة بالمبلغ وإيداعه فى خزانة وزارة المالية. وقد تم ذلك بالفعل. وفى جميع الجلسات اللاحقة، كان يتم تحويل بدل الحضور لحساب وزارة المالية. وفى مناسبة أخرى دُعيت لرئاسة اجتماع لهيئة التأمين والمعاشات، وتم الاجتماع فى حجرة الاجتماعات المجاورة لمكتبى فى وزارة المالية. وبعد نهاية الاجتماع، طُلب منى التوقيع على كشف، فتساءلت: ما هذا؟ فقيل لى إن هذا لتحصيل بدل الحضور لهذا الاجتماع! فرفضت، وقيل لى إن هذا هو المتبَع، وهنا طلبت تحويل المبلغ لحساب وزارة المالية». خد بالك بقى من الحتة اللى جاية دى لأنها الكاشفة عن توأمة مبارك والمشير السياسية، يقول الببلاوى: «وفى حديث تليفونى مع المشير طنطاوى حيث كنت أؤكد له أهمية إصدار قواعد لتحديد الحد الأقصى لمرتبات الحكومة، فوجئ عندما عرف أننى أرفض قبول أى مبالغ خارج ما يُصرف لى من وزارة المالية، فقال متسائلا: يعنى أنت لا تأخذ سوى 30 ألف جنيه؟ فقلت له: أنا آخذ فقط هذا المبلغ المخصص للوزراء، بالإضافة إلى مرتب الوزير الرسمى وهو 1882 جنيها وخمسة وستون قرشا». لاحظ هنا الآتى: 1- المشير فوجئ أن الوزير لا يتقاضى إلا الثلاثين ألف جنيه. 2- أنه لا مانع لديه من قبول مبالغ البدلات الأخرى التى رفضها الوزير! هذا بالضبط وبالنص موقف مباركى جدا حيث لا مانع من اقتطاع المال العام فى مكافآت وبدلات انتقال ونفخ للدخول الشهرية للمسؤولين وزراء أو محافظين أو لواءات مثلا. الموقف الآخر هو لحظة تفكير حكومة عصام شرف فى تقديم استقالتها بعد أحداث شارع محمد محمود: «عُقد بعد ذلك اجتماع مشترك مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وعرض رئيس الوزراء الأمر على المجتمعين، وبيّن استحالة استمرار الوزارة، وأنه يضع استقالة الوزارة تحت تصرف المجلس، كذلك أبدى شديد الأسف والأسى على أن تتم إجراءات فض الاعتصامات بما فى ذلك استخدام القوة، دون أخذ رأى رئيس الوزراء أو حتى علمه. وأبدى رئيس المجلس الأعلى أسفه على الأحداث، وأن البلاد فى حاجة إلى وجود حكومة مستقرة الآن أكثر من أى وقت قادم، خاصة أن الانتخابات على الأبواب، ولذلك استبعد فكرة الاستقالة تماما». وبعدها بساعات «وأخيرا تقرر أن يقوم رئيس الوزراء ويصاحبه كل من النائبين على السلمى وأنا بمقابلة المشير وإبلاغه برغبة المجلس فى الاستقالة، وقد كنت من أشد المدافعين عن ضرورة الاستقالة، وذهبنا إلى مقر رئيس وزارة الدفاع حيث استقبلَنا المشير طنطاوى والفريق سامى عنان. وعرض السيد رئيس الوزراء الموقف، وما وصلت إليه علاقة الحكومة بالمواطنين، وخاصة فى ضوء الأحداث والضحايا فى واقعة فض اعتصامات ميدان التحرير. ولذلك فإن الوزارة لن تكون فى وضع يمكّنها من أداء دورها على النحو المطلوب، وإن هناك موجة شعبية معارضة للحكومة، ولذلك فإن السبيل الوحيد المتاح هو استقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة أكثر قبولا من الناس. وقد رفض المشير هذا المنطق، وأصر على ضرورة استمرار الحكومة، وتحدث الدكتور السلمى لتأييد وجهة نظر رئيس الوزراء، كما تحدثت فى الاتجاه نفسه، مؤكدا أن مصلحة البلد بل ومصلحة المجلس العسكرى قبول الاستقالة. فما حدث فى التحرير لا يمكن أن يمر دون ثمن، وأن على الحكومة أن تدفع هذا الثمن. واستمر الحوار وموقف المشير لا يتغير». هو ذاته مبارك يا جماعة.. 1- نفس رفضه للتغيير.. 2- عدائه لفكرة الاستجابة للرأى العام.. 3- وميله المنحاز دائما إلى بقاء الأوضاع على ما هى عليه.. 4- والبطء فى اتخاذ القرار.. 5- ثم هذا الإنكار المباركى الشهير لفكرة أن يتقدم أحد بالاستقالة قبل أن يُقيله هو بنفسه! هذا طبعا غيض من فيض، لكن يبقى السؤال: هل تخلى مبارك عن الحكم فعلا؟ إذن مَن الذى يحكمنا الآن إذا لم يكن هو؟