من يملك ميدان التحرير؟ وهذا السؤال ليس سؤالاً مجازيًا يراد منه التعبير عن ثورة الشعب بكلمة ميدان التحرير، مثل أن نقول شرعية الميدان بدلاً من شرعية الثورة وغيرها من التعبيرات الجمالية، لكن الإستفهام هنا استفهام حقيقي يتطلب الإجابة؛ من يملك ميدان التحرير، ومن المسؤول عنه؟ الإجابة المنطقية لهذا السؤال هي أن الشعب يملك ميدان التحرير والمسؤول عنه هو الحكومة كغيره من الأماكن في مصر. لكن ميدان التحرير الآن ليس مكانًا عاديًا كغيره من باقي الأماكن في مصر، فميدان التحرير الآن هو رمز لثورة مصر ولصحوة شعبها، كالعلم؛ يبذل المحاربون أعمارهم ودماءهم للحفاظ عليه عاليًا خفاقًا رمزًا لكرامة بلادهم وعزتها. وكنا نظن أن من ملكوا القرار بعد تنحي مبارك سيحافظون على الميدان بكنوزه التي تركها فيه الثوار من لوحات وألوان وجرافيتي تعبّر عن عبورنا حاجز الخوف في نفوسنا والذي دام لثلاثين عامًا، وكان عبوره أروع وأصعب من عبورنا حاجز بارليف الذي دام ست سنوات فقط. لكن شيئًا من هذا لم يحدث، وكأنما أريد للشعب أن ينسى عنوان ثورته وعلمها. ومع مرور شهور عام 2011 وتكرار جُمَع الإحتجاجات وتكرار الاعتصامات في الميدان، عاد الميدان مرة أخرى عصا في حلق من ورثوا السلطة من مبارك، وعادت المواجهات مرة أخرى مع الثوار، ولم تقتصرعلى المواجهات الفعلية، بل امتدت إلى حرب الإعلام والشائعات تمامًا كما كان يحدث أيام مبارك، وكأنما هو ذنب كتب علينا أن نمضغه المرة بعد المرة، ويعود الثلاثي الذي ألفنا رؤيته سنين طويلة؛ الثوار.. المناضلون.. المعارضون، أو سمهم كما تشاء، والحاكم.. مبارك.. جمال.. المجلس.. أو سمه كما تشاء، والطرف الثالث.. البلطجية.. الإتحاد الاشتراكي.. الحزب الوطني.. أو سمه كما تشاء، ويكون مكان النزاع هذه المرة هو ميدان التحرير. يعتصم الثوار في خيامهم، تتعاقب عليهم جُمَع الإحتجاجات بتحرشاتها، ويسكن إلى جوارهم البلطجية، أو قد يترددون على المكان، تغطي أكوام المخلفات الميدان، والتي لا يمكن إعتبار انتشارها أمرًا طبيعيًا بسبب بضع عشرات من المعتصمين، غالبًا ما يحرصون على نظافة أماكن اعتصامهم، يختفى عمال النظافة، وتفوح روائح البول والعفن والإشاعات والحكايات عن الخيام المغلقة وما يدور داخلها... تمامًا كما كان يحدث أيام الثورة الأولى باختلاف أنه في أيام الثورة الأولى كان داخل الميدان مؤمنًا ضد البلطجية وكان الثوار قادرين على الحفاظ على نظافته ونظامه، وإن لم يقدروا كما هو الحال الآن على مواجهة حرب الإشاعات - كتلك التي كان يطلقها أمثال طلعت زكريا- إلا بقولهم للناس طيب إنزلوا شوفوا بنفسكم. لا يمكن لأي أحد أن ينكر فضل اعتصام الثوار وصمودهم وتضحياتهم أيام محمد محمود ومجلس الوزراء في استكمال انتخابات مجلس الشعب، ولا أهمية دورهم في الضغط لاستكمال باقي أركان الحلم بدولة مدنية ذات دستور عادل ولها رئيس منتخب يحكم ويُحاسَب، وليس من العدل أن يكون للثوار والمعتصمين هذا الفضل الذي لا يجرؤ أيّنا على نكرانه، ثم نتركهم وحدهم يواجهون ما يواجهون، فإن كانت لهم الغلبة فخير وبركة وهم برضه مننا وعلينا، وإن خلّص العسكر عليهم فشهداء عند ربهم يرزقون، وليس من العدل أن نتركهم لمن يُغرقهم في أكوام الزبالة والعفن، والإشاعات والتحريض والقصص الملفقة، والناس المشبوهة من حولهم، ولا من المقبول أن نترك ميدان التحرير عنوان ثورتنا وعلَمَها مرتعًا للبلطجية ومستقرًا للزبالة والحكايات المشبوهة. لماذا لا تتكون هيئة ترعى ميدان التحرير، اتفقت مع ثواره أو اختلفت معهم، تتكون من أعضاء من مجلس الشعب وتضم إن شاءت قضاة وعسكريين يثق بهم الثوار، ويتطوع للعمل باسمها من يريد أن يساند المعتصمين، وكل من يريد أن يحافظ على ميدان التحرير، وتأخذ هذه الهيئة على عاتقها مسئولية حفظ نظافة الميدان ونظامه، والإشراف على رعاية محتجيه ومتظاهريه ومبانيه الأثرية وكنوزه، وتطهيره وحماية معتصميه، حمايتهم بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، حمايتهم من عسكر مجهولين يرتدون أحذية رياضية يعتدون عليهم وتنكر كل الجهات بعدها مسئوليتها عن الاعتداء، حمايتهم من قصص تنسج حولهم تطول شرفهم وأعراضهم، حمايتهم من مأجورين يسيئون إليهم قولاً أو فعلاً... هيئة تحفظ ميدان التحرير منطقة محمية ثورية باسم الشعب الذي يدين لهذا الميدان ويعرف قدر هؤلاء الثوار.