لا أظن أن هناك أي كيان سعيد في مصر الآن. كلنا نشعر بالمرارة مما يحدث، وكلنا خائفون من المستقبل، وإن كان الخوف أنواع. مبارك ونظامه، المجلس العسكري، ضباط الجيش، الحكومة، ناشطي الثورة ورموزها، من شاركوا في الثورة من غير الناشطين، شباب الإخوان وكبارهم، من لم يشاركوا في الثورة ولا يدعموها، المصريون في الخارج، الأقباط، السلفيون، وأنا. كلنا خائفون ولنا الحق أن نخاف، ولكن الخوف أنواع. فالبعض يخاف على ضياع ثروته وسطوته وصفقاته، والبعض يخاف على ضياع أحلامه، والبعض يخاف على ضياع أمنه وقوت يومه، وكلنا لا يعجبنا ما يحدث في مصر. إذا فحالة الإحباط عامة وتستحق موقف، وقد رأى بعضٌ منا أن هذا الموقف هو في النزول مجدداً إلى التحرير يوم الجمعة، وقالوا بأن النزول الآن هو إنقاذ للثورة من الموت، لأسباب قد نتفق أو نختلف عليها، وعارضهم في ذلك آخرون، وقالوا بأن استمرار الثورة هو خراب، لأسباب قد نتفق أو نختلف عليها. ويوم الجمعة سينزل البعض وسيمتنع البعض، وسيمتلئ الميدان بالهتافات حتى ينتهي النهار. وستبقى – على الأغلب – حالة الخوف والغضب والإحباط عند كل من شاركوا ومن امتنعوا. دعوني إذن أقدم طرحاً جديداً لميدان تحرير يمكن أن يساهم في تحرير مصر، ميدان لتحرير العقول والضمائر، ميدان تنطلق منه حلول ولا يكتفي بالهتافات، واعذروني لو شت بيَّ الخيال إلى حدود المستحيل... فماذا لو: ماذا لو توقف الميدان عن الهتافات، وبدأ في الحوار؟ هل يمكن أن يتفق الميدان أخيراً على مجموعة واضحة من المطالب لا رجوع عنها، ولا تحايل عليها ولا مزايدة فيها؟ هل يمكن أن يجتمع الميدان أخيراً على أسماء قليلة واضحة يفوضها ويمنحها كل شرعيته حتى لا يتلاعب بنا من يستغلون عدم اتفاقنا؟ ماذا لو نزل إلى الميدان كل المشاركين في المجالس المختلفة للحوار الوطني والوفاق الوطني وما ماثلها، ليفتحوا حواراً حقيقياً مع الذين يرون أن ثورتهم قد سُرِقت وأن كل هذه الحوارات لا قيمة لها في ظل اتخاذ القرارات بغموض ودون الرجوع لأحد؟ هل يستطيع هؤلاء أن يأخذوا من الميدان فهماً يساهم في خلق حوار وطني حقيقي؟ ماذا لو نزل إلى الميدان جموع الأقباط، صغاراً وكباراً؟ هؤلاء الذين يظنون أن مصر قد تبرأت منهم وصارت أماً قاسيةً عليهم، هؤلاء الذين لم ينزلوا في الثورة الأولى لأنهم كانوا يخشون من الاضطهاد إذا سقط نظام مبارك وأمنه، هل يمكن أن ينزلوا الآن في مظاهرة لا علاقة لها بمطالبهم كفئة ولكنها دفاعاً عن هوية كل الوطن؟ هل يمكن أن يلتحموا بكل المحاربين من أجل دولة مدنية حرة وعادلة، وأن يبحثوا لأنفسهم في الميدان عن دور في حركة أو جمعية أو حزب يشاركون به في بناء مصر المستقبل كمصريين أولاً وأخيراً؟ ماذا لو نزل شباب الإخوان – كما وعدوا – إلى الميدان، ليس لاثبات الحضور لكن لفتح حوار حقيقي مع هؤلاء الذين احتفوا بهم وقت الثورة الأولى ثم ارتجفوا رعباً من بعدها بسبب خطاب متطرف ومتعجرف تفضل به بعض قيادات الإخوان ورموزهم، ولم تنكره الجماعة أو تفسره؟ هل يمكن لشباب الإخوان أن يصيروا جسراً يطمئنا على مستقبل هذا الوطن ويفسر لنا علامات القلق حتى نعود مجدداً للعمل المشترك من أجل مصر؟ ماذا لو نزل إلى الميدان من لم ينزلوا أبداً؟ من رأوا دائماً – وعلى طول الخط، ولأسباب تتغير مع تغير المراحل – أن الثورة هي دمار للاستقرار وتغليب للأقلية الثائرة على الأغلبية التي لا تريد تغييراً ثورياً، هل يمكن أن يرى هؤلاء أن شباب الثورة ليسوا عملاء ولا بلطجية، وأن ما نريده جميعاً لمصر هو في النهاية هدف واحد؟ هل يمكن أن ينزل هؤلاء – لا لدعم الثورة أو الهتاف – لكن لفتح حوار يقضي على الفصل بين الثورة والكنبة؟ ماذا لو نزل السلفيون إلى الميدان، برغم تأففات شيوخهم الذين حرموا عليهم النزول في الثورة الأولى؟ هل يمكن أن يفتحون عهداً جديداً يقول بأنهم مصريون يقررون بحرية متى وكيف يخدمون مصر ولا يملي عليهم أحد فتواه؟ هل يمكن أن يعلنون بكل وضوح رفضهم لما نُسب لبعضهم من أعمال فتنة، والتزامهم بمقاومة كل من يحاول إشعالها؟ هل يمكن أن يتحاور السلفي والقبطي في الميدان، بعيداً عن شاشات الفضائيات، ليقتلوا الفتنة بالفهم؟ ماذا لو – وأعرف أنني أقارب حد الجنون – اقتبس رجال المجلس العسكري من سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأرسلوا رجالاً يطوفون في الميدان ليستمعوا إلى ما يقوله الناس، ويفهموا ما يريده الناس، ويروا الإيمان والإحباط يمتزجان في عيون الناس؟ هل يمكن أن نجد في تصورات الأيام القادمة انعكاساً لحوارات الميدان؟ إنني أتفهم على مستواي الشخصي لماذا يصر الثائرين أن يذهبوا للميدان، وأتفهم – بشيء من التردد – اعتراضات المعترضين. لكني أظن أن الميدان نفسه عليه أن ينمو إلى ما وراء الثورة، فمصر أكبر من ثوارها الأبطال، وعلى الميدان أن يتحول إلى مكان يستوعبنا جميعاً في حوارات لن تكون كلها سهلة، لكن كلها ضرورية، حتى نخرج من هذا المطب الذي أوقعنا فيه التاريخ. فإذا كنت ستنزل الميدان، فلتنزل وتتحاور... وإذا لم تكن تنوي النزول، أقول أيضاً ... انزل وتحاور