في نفس الساعة التي كنت أجلس بين شباب الدستور الأصلي السابعة مساء الخميس 13 يناير في احتفالهم بمرور مائة يوم على إضرابهم كان الناس في تونس يصنعون بدمائهم ثورة "الخبز والحرية" كنا نلتقى في دائرة في بهو نقابة الصحفيين وبدأ الفنان محمد اسماعيل على عوده "ثوار .. ثوار .. و لآخر مدى ثوار ثوار" كنا نجلس بعضنا نغني وبعضنا يصفق : وكانت الدموع تصعد وتهبط في عروقي وشراييني وتنحبس في مقلتي وتأبى النزول ! مطرح مانمشي يفتح النوار كان يمشوا في شوارع تونس بالفعل وكان النوار يتفتح وكنا نغني ونبكي وننتظر ننهض في كل صباح بحلم جديد نعيدك يا انتصار ونزيد نهض التونسيون وخرجوا رافضين كل الوعود والعهود التي كررها الطاغية وهو يرتعش "فهمتكوا" .. فهم يحلمون بحلم "جديد" ويعيدون انتصارهم ويزيدوا كان حلمي يغزل مع حلم شباب الدستور في العدالة والحرية وكان حلم التونسيون يتحقق في الشارع في ثورة الخبز والحرية ... صفعة على وجه بوعزيزي من شرطية أيقظت كرامته التي نامت قليلا .. وحين فقد كرامته ومورد رزقه .. أشعل النار في جسده وأشعلت روحه ثورة الشعب كله . كم صفعة على الوجه تلقاها المصريون من الشرطة كل يوم .. وما الذي يجعلهم يقدموا الرشوة حتى لا تصادر بضاعتهم ويقبلوا بمصادرة كرامتهم ؟ كم عدد العاطلين الذين يجلسون على المقاهي ينفسون همومهم مع دخان الشيشة .. ويقفون على نواصي الشوارع فيخرجوا كبتهم في عنف لفظي أو تحرش جسدي ضد أم وأخت وزوجة وابنة ؟ كم عدد الموظفين الذين يتقاضون 99 جنيها وحين يأخذون "وعد ومجرد وعد" بزيادتها إلى 120 جنيها .. يفض الإضراب . كم عدد العمال الذين خربت مصانعهم وجلسوا على رصيف مجلس الشعب أيام وليالي ثم انفضوا بعد "وعد مجرد وعد" بمعاش مبكر قيمته 30 ألف جنيها يصرفها من اشترى المصنع بتراب الفلوس ومن باعه بالبخس في " قعدة" في فندق 7 نجوم . ماهي الجرثومة التي استشرت في جسد وعقل المصري وتركته خاضعا خائفا يكتفي بفتات العيش ويصبر على "جار السو" حتى يرحل ؟ رغم كل ذلك .. لا تراهنوا على صبر المصريين فلا أحد يعرف موعد القيامة مهمات ادعى الحكمة ! ... يداعب محمد اسماعيل عوده ويدق زميله على الدف وتتصاعد المشاعر وأتذكر جيلي الذي عاش الحلم وعايش الكابوس .. وتغلغلت المتناقضات في مسامي . ذلك الجيل الذي عاش مرحلة : من أرضنا هل الإيمان والدين عيسى ومحمد ثورتين خالدين وعاش مد ديني متطرف انعكس في فضائيات وندوات وكتب ومدونات ومظاهرات هدفها وغاياتها وضع التناقض بين أتباع محمد وأتباع عيسى تحويل ثورة الدين التي تدفع إلى التقدم إلى شعائر شكلية تعمق الاختلاف وتؤدي إلى التخلف . ذلك الجيل الذي عاش بدايات : والعلم ثورة ومن هنا قامت والفن والحرية والتمدين وشهد انتكاسة التعليم والبحث العلمي وتحول الطلاب إلى آلات حفظ وغش وتخلف والعلماء إلى موظفين ينتظرون المرتب وينسخون القديم ويشربون الشاي في المعامل التي لا تعمل . عاش عصر من الفن الصادق والحرية الهادرة والتمدين القادر ثم الابتذال والفساد والتدين الشكلي وكراهية التمدين واعتباره أفكار الكافرين الذين أرادوا إبعادنا عن قيمنا المقدسة . وتزداد المتناقضات وتضيع ملامح الطريق : ثوار نهزك ياتاريخ تنطلق نحكم عليك يامستحيل تنخلق نؤمر رحايك يافضا تمتلئ والخطوة منا تسبق المواعيد جيلنا عاش بناء السد العالي وحكم عليه الزمن أن يشهد استفتاء تقسيم وانفصال السودان في نفس التاريخ "9 يناير" وبينهما سنوات من الانتصار والانكسار .. عاش حلم تحرر افريقيا وشهد تسربها أما أعيننا إلى إسرائيل .. عاش حلم السلاح المصري العربي الذي يمتلئ به الفضاء وشهد انطلاق نايل سات في الفضاء بعد أن جلب لنا فضائيات التطرف والجنس . ويشدو اسماعيل وأم كلثوم وكل فنان يعرف معنى رسالة الفن : ثوار مع البطل اللي جابه القدر رفعنا راسنا لفوق لما ظهر بوسنا السما وياه ودوسنا الخطر والعزم ثابت والعزيمة حديد هل كانت أزمة جيلنا أنه عاش طفولته وتفتح شبابه مع البطل اللي جابه القدر .. فرع رأسه ووصل إلى السمار وداس الخطر ؟ وعندما اختفى وظهر من هم بعيدون عن البطولة قولا وفعلا ظل ينتظر ظهور البطل .. أحيانا نخلقه من بيننا ودائما نختلف حوله .. وأدمنا الانتظار ولم ننتقل إلى مرحلة البطولة الجماعية بطولة الشعب . هذه المعضلة السياسية التي خرجت علينا مئات التحليلات السياسية تتهم عبد الناصر والناصريين باعتمادهم على البطل الفرد وعجزهم عن الانتقال إلى مرحلة الشعب البطل بسبب غياب الديمقراطية والتعدد والاعتماد على دور المنقذ. الحقيقة أن الناصريين ليسوا في حاجة إلى تبرئة عبد الناصر من هذه التهمة فالتاريخ يبرئ الرجل الذي تحدث عن الشعب البطل أكثر من أي زعيم شهدته مصر والعروبة والذي خلق كوادر سياسية مازالت تقود الشعوب العربية جميعها ضد الطغاة والفساد ومدعي الديمقراطية . .. إذا كانت الحقائق على الأرض في هذه الحقبة تثبت أن الثورات يفجرها الشعب ويصنعها بديلا عن الأحزاب والنخبة وبائعي الكلام وأصحاب الشعارات فهي تثبت نظرية جمال عبد الناصر الذي اكتشف هؤلاء المدعون وتوجه إلى الشعب وحده وتحققت نظرية عبد الناصر ولكن ليس في مصر . وهاهو الشعب التونسي البطل يخرج إلى الشارع "يسأل عن حقوقه والثورة زي النبض في عروقه" لا يعتمد على أحزاب ولا سياسيين ولا نخبة معارضة هو فقط أسقط الديكتاتور ووقف أمام الحاشية ورفض أن تسرق الأحزاب والقوى السياسية ثورته وطالب برحيل رموز الماضي الذين شاركوا بالفعل أو بالصمت . الآن لابد أن نسلم الراية لجيل آخر أثق رغم كل شئ أنه سيتذكرنا بالخير : تعالوا يا أجيال يارمز الأمل من بعد جيلنا واحملوا ما حمل وافتكروا فينا واذكرونا الخير مع كل غنوة من أغاني العمل وكأن صلاح جاهين يكتب اليوم وليس في الستينيات .. إنهم حولي الأجيال رمز الأمل .. إنهم أمامي شباب 6 أبريل وكفاية ومدونيين والدستور .. يحملون ماحمل جيلي وبم يقصر رغم كل شئ .. الهم كما هو وزاد كثيرا .. فالفساد استشرى ونهب ثروة البلاد وقتل ثورتها وتقزيم دورها وحبس حريتها وحرية أبنائها .. كله مستمر ويزيد .. وعليكم أن تكملوا الطريق إلى ثورة الحرية والخبز . هيلا هيلا ثورتنا عمل وجهاد هيلا هيلا هبوا واصنعوا الأمجاد هيلا هيلا وابنوا فوق بنا الأجداد وكأن عود رياض السنباطي ونغماته بدأت اليوم .. أم إنه الفن الجميل الراقي الذي خلق من رحم الناس يعيش ويستمر ولا يموت أبدا . أول طريقنا بعيد لآخره بعيد وطول ماإيد شعب العرب في الإيد الثورة قايمة والكفاح دوار وصوت أم كلثوم يهدر بأمواج الثورة الماضية والآتية يؤمن بها يحياها يحبها يتمازج معها .. فيتحول الغناء إلى ثورة والثورة إلى غناء. صدقوا جميعا – جاهين والسنباطي وأم كلثوم – فالثورة الآن في تونس قربت البعيد وبشرتنا بالعيد .. صدق عبد الناصر عندما حلم بالوحدة العربية وحدة الشعوب "وطول ماإيد شعب العرب في الإيد .. الثورة قايمة والكفاح دوار " إنها مسألة وقت .