أحياناً كثيرة تبدو لي مسألة التوريث «قضية عدمية» لا طائل منها، الكل يتحدث عنها، تتباين حولها الآراء بين مؤيد ومعارض، تقفز علي الساحة بلا موعد ثم تختفي بسرعة كما ظهرت، منذ عام 2002 شغلت القضية الرأي العام بشكل لافت مع تولي جمال مبارك نجل الرئيس أمانة السياسات بالحزب الوطني، ومنذ ذلك الحين ونحن وقادة الفكر والرأي والقيادات السياسية والتنفيذية والشعب كله في حيص بيص، نضرب أخماسا في أسداس، نحسبها بالطول والعرض، نضع الافتراضات ونظرية الاحتمالات، نعد المؤيدين والرافضين ومع ذلك نخلص إلي معادلة صفرية. الجدل الدائر ليل نهار حول التوريث انتقل بطبيعة الحال إلي الصحافة ووسائل الإعلام الدولية إلي أن وصلت الأمور إلي حد التصنيفات الدولية والحصول علي مراتب مختلفة في سباق الدول الساعية للتوريث. قبل أيام، عاد الصخب حول القضية ليملأ الأسماع والأبصار، فرئيس الوزراء يطمئن المستثمرين علي هامش جلسات مؤتمر «يورومني» بأن مصر لديها قائد، وأنه لا محل لطرح تساؤلات عن بديل، كما أنه لن يصعب علي الدولة المصرية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ أن تُنفذ عملية انتقال للسلطة. لكن المشكلة بالنسبة للمستثمرين وخاصة الأجانب تبدو علي غير هذا النحو، فالمستثمر الذي يخشي بطبيعة الحال علي أمواله من الضياع أو المصادرة أو حتي الخسارة، يريد أن يطمئن إلي استمرار السياسات الاقتصادية علي حالها، وكي يطمئن إلي ذلك يلزمه بروز مؤشرات واضحة بأن السياسة المصرية الإقليمية والداخلية لن تتعرض لاهتزازات تؤثر في مجري الاستثمارات، ولأن القاصي والداني يعلم علم اليقين أن من يمسك برأس السلطة هو وحده من يتحكم في كل صغيرة وكبيرة في البلد، فإنهم يتوقون إلي الاطمئنان لصاحب الحظ السعيد الذي سيتولي دفة الأمور في الدورة الرئاسية المقبلة إذا قرر الرئيس مبارك التخلي طواعية عن المنصب الرئاسي، هم يريدون التأكد من أن عملية انتقال السلطة ستمر بسلام وسلاسة وهدوء، ذلك أن ما يقوله رئيس الوزراء هو مجرد افتراض لا أحد يملك الجزم به خاصة أن نظامنا السياسي لم يشهد منذ 60 عاماً تجربة مماثلة، فالضباط الأحرار هم من أقصوا الملك فاروق قبل أن يُقصي الجناح الأقوي منهم محمد نجيب وحين توفي عبدالناصر فجأة كان هناك نائب واحد للرئيس وقيادة مركزية قوية للدولة يمكن أن تختار من تشاء في ظل غياب قوي مناوئة في الشارع السياسي عام 1970، وحين قتل السادات بعد أحد عشر عاماً كان هناك أيضاً نائب واحد للرئيس وأحزاب سياسية وليدة لا تستطيع طرح منافس، كما كانت البلاد في حالة طوارئ وصدمة استدعت ترتيب المنزل بسرعة بدعم واضح من المؤسسات السيادية القابضة علي الأمور في الدولة. الآن لا أحد يستطيع أن يدعي توافر الظروف نفسها التي سادت في الماضي، فالدنيا تغيرت والأوضاع الداخلية أيضا تغيرت، بل إن الشارع السياسي أضحي متخماً بألف سبب وسبب تجعله غير مأمون العواقب، ونظرة واحدة وسريعة لأسعار الخضراوات والأطعمة كافية لإثارة القلق والتوجس. أحسب أن الرئيس مبارك يدرك جيداً العوامل القائمة وهو بالفعل سارع إلي التعامل معها خلال الأسبوع الفائت، حين أكد دوراً أكبر للحكومة في مواجهة الأسعار، وحين التقي المثقفين والكتَّاب ومن قبلهم بالفنانين في إشارة تحمل أكثر من مغزي يتعلق بالمرحلة المقبلة. الرئيس عاد بنشاط مكثف ليتفقد النشاط الاقتصادي وليتابع تنفيذ برنامجه الانتخابي الذي أطلقه قبل خمس سنوات.. والمعني الذي أظن أنه أصبح مشرقاً كالشمس، أن الرئيس سيترشح لدورة رئاسية جديدة العام المقبل لتظل قضية «التوريث» «معادلة صفرية» في وطن يبحث عن أرقام إيجابية.