شاءت إرادة الله أن تُبتلي الحركة الإسلامية الحديثة بابتلاءات متعددة ومتكررة، أخصها وأخطرها ثلاثة: المال، والعنف، والقيم، وكلها عناوين بعيدة عن المعني الدارج في أفهام الإسلاميين لمعني الابتلاء الذي يُقصد به السجون والمعتقلات . فعلي مدي ثلاثين عاماً خلت، إبتليت الحركة الإسلامية بتلك الابتلاءات الثلاثة، التي كادت تقضي عليها قضاءً مُبرماً، لولا أن الأمل في رعاية الله وعنايته عند شباب الحركة البريء لا يزال غير منقطع . كان الابتلاء الأول هو المال، حين ظهر منذ ثلاثين عاماً ما يعرف بشركات توظيف الأموال الإسلامية، والبنوك الإسلامية، وكان القائمون علي كليهما يزعمون أنهم ينطلقون من الفكرة الاسلامية في الاقتصاد، وأنهم يحاربون الربا، فجمعوا مئات الملايين بل عشرات المليارات، من الآلاف المؤلفة من الشعب المصري المتدين بطبيعته، وامتلأت الصحف ووسائل الإعلام بالدعايات والشعارات التي تبدأ بكلمة إسلامي وتنتهي بكلمة حلال، لتجمع مزيداً من المال من البسطاء والفقراء المصدقين، لسبب واحد .. أنهم متدينون، ثم فجأةً انهار كل شيء، وضاع المال، كثيره وقليله، علي الأغنياء والبسطاء، ودوت صدمة في أنحاء القطر المصري كله، ولم يخل بيت من ضحية فقد ماله في تلك الشركات، أما البنوك فقد أثبتت التجارب العملية فيما بعد أن تطبيقاتها لا علاقة لها بالفكرة الإسلامية من قريب أو بعيد، حتي إن بعض تلك المصارف الإسلامية قد أُدمج في غيره من البنوك الربوية توقياً لإشهار إفلاسه علي النحو المعلوم للجميع. واللافت للنظر أن كثيراً من العلماء والمفكرين من قادة الفكر والرأي في الحركة الإسلامية المعروفين بالحكمة، كانوا يرقبون ذلك، وينبهون القريبين منهم قدر ما يستطيعون، بيد أنهم لم يستطيعوا المجاهرة والإعلام بآرائهم الحكيمة آنذاك لئلا يقال عنهم إنهم يحاربون الفكرة الإسلامية في الاقتصاد، في حين أنهم أصحابها الأصليون، ودعاتها المخلصون، ومجددوها المجتهدون، وقد سرقت منهم جهاراً نهاراً، ويأتي في مقدمتهم جميعاً الشيخ الغزالي والشيخ القرضاوي والدكتور محمد سليم العوا، وغيرهم من الحكماء . ومنذ ذلك التاريخ وفكرة الاقتصاد الإسلامي ذاتها ( وليست تجربتها الخاطئة ) قد اهتزت في نفوس المتدينين وسقطت في أعين المصريين، لأنها ارتبطت بتجربة سيئة، فأصبحت عبارة اقتصاد إسلامي مرادفة لشركات توظيف الأموال وتجربتها الأليمة، بل صار التخوف يتملك المصريين من أصحاب اللحي إذا تعلق الأمر بأية معاملات مالية، وأصبح يشار إلي الملتحين بالبنان علي أن ذمتهم وتصرفاتهم المالية ليست فوق مستوي الشبهات، وبالجملة فقد كان هذا الابتلاء عظيماً حين استطاع نفرٌ من أبناء الحركة الإسلامية أن يسرقوا فكرة عظيمة بقصد تحقيق منافع شخصية غير مشروعة فأضروا بالحركة ضرراً بالغاً مازلنا نعاني آثاره حتي اليوم. وأما الابتلاء الثاني فكان ابتلاء العنف، والمقام هنا لا يتسع لسرده تفصيلاً، فضلاً عن أنه معلومٌ للجميع، فالتفجير والتدمير والتخريب والقتل والاعتداء علي الممتلكات العامة، كانت كلها صوراً تصدمنا في وسائل الإعلام بغير حاجة إلي بيان، المناسبة هنا فقط تقتضي الإشارة إلي أن الضرر الذي نتج عن تلك المحنة كان متعدد الآثار، فقد كان ضرراً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، كما أنه كان ضرراً داخلياً وخارجياً، وليس من قبيل المبالغة أن سنوات العنف التي خلت قد أخرت بلادنا حضارياً مائة عام إلي الوراء، حتي ولو كان القائمون بهذا العنف قد تراجعوا فيما بعد، ولا شك أنه كان للحكماء الذين سبق أن أشرت إليهم دور كبير في تلك المراجعات والتراجعات، علي الرغم مما نالهم من نصيب وافر من الهجوم علي أشخاصهم، ولكنهم وقفوا في وجه تلك الموجة العاتية حتي ردوها. وأما الابتلاء الثالث، فهو انهيار القيم، فما تبقي من الحركة الإسلامية ناجياً من ابتلاء المال وابتلاء العنف طرح نفسه للمجتمع المصري علي أنه موقظ الأمة، ومحيي الهمم، ومعلي القيم، قيم الحق والعدل والحرية والمساواة والشوري والشفافية والنزاهة، كان هذا التيار يزعم أنه بديل للحزب الوطني الحاكم الفاسد المزور الظالم، المنتهك للحرمات، المهدر لكرامة الإنسان، المتصارع علي السلطة، القابض علي الدنيا، الذي تحركه المصالح والمنافع علي حساب القيم، كان هذا التيار هو تيار الإخوان المسلمين، فوثق فيه الشباب وبايعوه وساروا خلفه، بل وثق فيه كثير من أبناء هذا الشعب فاختاروه في معظم الانتخابات التي تجري حرة، بل وصل الأمر بهذا التيار إلي أنه استطاع أن يجمع من الأصوات كل من يكره الحزب الوطني الحاكم الظالم، واستمر هذا التيار في رفع راية الحرية، والمطالبة بالشوري، وإعمال اللوائح والقوانين، ومحاربة التزوير، واستمر الشباب يتزايدون حوله يوماً بعد يوم، يأملون ويحلمون بغدٍ قريب، ليتمكن فيه هذا التيار من تنفيذ مبادئه، ولكن فجأة، وبغير سابق إنذار، وفي أيام معدودات، انهارت القيم كلها، انهارت فكرة الحرية، حرية الرأي والفكر والنقد، وانهارت فكرة الشفافية، وانهارت النظم واللوائح والقوانين، وحلت مكانها قيم أخري، هي قيم الظلم والقهر، وقيم التزوير والتزييف، فتساوت الرؤوس والأكتاف، بل والأقدام، بين الحزب الوطني الظالم، وبين تيار الإخوان، فالتزوير هنا هو التزوير هناك، والمخالفات هنا هي المخالفات هناك، والتزييف هو التزييف، بل إنك تستطيع أن تتكلم عنهما وكأنهما شيء واحد . هنا كانت صدمة الشباب كبيرة وعنيفة ودموية، ذلك الشباب الحالم الصادق المتدين، الذي كان يأمل في منظومة قيميَّة مختلفة عن المنظومة الحاكمة الظالمة، إذا بهذا الشباب يسمع من قائده أو مرشده أنه لا يعلم ما يدور داخل الإخوان ! ويسمع أيضاً من قائده ومرشده أنه قد عقد صفقة مع الأمن ! ويسمع أيضاً من أحد قياداته أنهم غضبوا علي الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح لجرأته في نقد أفكار سيد قطب ! ويسمع أيضاً من نائب مرشدهم أو قائدهم أن انتخابات مكتب الإرشاد مزورة ! وأن إجراءات انتخاب المرشد باطلة !! وأن ...... وأن ...... وأن. وهكذا ظهرت منظومة قيم أخري في الردود والردود المتبادلة، وكشفت الأحداث والوقائع والأيام عن أنه لا فرق بين هذا التيار وبين الحزب الوطني الحاكم، بل كشفت الردود وردود الأفعال عن تطابق المواقف والسياسات والمصالح والتوازنات، فكشفت الأحداث عن تركهم لأحد القيادات في مكتب الإرشاد يستولي علي مدرسة المدينةالمنورة بالإسكندرية دون وجه حق، في مقابل شراء صوته وموقفه في معركتهم، وكشفت الأحداث أيضاً عن تركهم لأحد القيادات مبلغ ثمانية عشر مليون جنيه استولي عليها من شركة التنمية العمرانية للمقاولات بغير حق، في مقابل مجهوداته المسماة « الفوائد من الشدائد » أليس هذا ما يحدث داخل الحزب الوطني الحاكم بالضبط ..! هنا مرة أخري كانت صدمة الشباب كبيرة وعنيفة ودموية، بعض هؤلاء الشباب تمكن الإحباط منه تماماً فشلَّ حركته وفكره، وانعزل عمن حوله، والبعض الآخر قرر أن يترك كل ما هو إسلامي، فقد انهارت ثقته تماماً في كل شيء، والبعض الثالث خرج من بيته هائماً في الطرقات لا يصدق ما يحدث . وما دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو ما تلقيته من هؤلاء الشباب من لوم شديد وعتاب قاسٍ، فقد كنت سبباً مباشراً في ارتباط بعضهم بتيار الإخوان منذ زمن بعيد، قبل أن أستقيل من الجماعة برمتها عام 1996م، والبعض الآخر لامني لأنني حين استقلت لم أصحبه معي ! ولكني تركته وعلي حد قوله ليضيع أجمل سنوات عمره ! والبعض الثالث كان ينعي عليَّ أنني أعرف الكثير ولا أتكلم . إن الصدمة الثالثة للحركة الإسلامية، أو الابتلاء الثالث، هو في رأيي أشد الابتلاءات جميعاً، فابتلاء المال وابتلاء العنف أمران ماديان محسوسان يسهل التنبيه لخطورتهما والحذر منهما، ولكن ابتلاء القيم يأتيك من حيث لا تدري ويتملكك رويداً رويداً فتري نفسك بعد زمن منافقاً كبيراً، وقد كنت مخلصاً، أو تري نفسك خائناً بعد زمن، وقد كنت أميناً، وقد تري نفسك ترزياً للوائح وقوانين، ومبرراً لمخالفات ومظالم، وقد كنت في يوم من الأيام منكراً علي من يفعل ذلك أشد النكران، وقد تري ذلك كله في شخص واحد كالدكتور عصام العريان مثلاً، الذي تستطيع وبحق أن تستبدل اسمه في التصريحات الصحفية باسم كمال الشاذلي أو مفيد شهاب أو محمد الدكروري، ولا تجد أدني فرق، لا في اللفظ، ولا في المعني، ولا في المبني .. حتي الشكل الخارجي ..! إن أزمة الحركة الإسلامية قد تضاعفت أضعافاً كثيرة بهذا الابتلاء الأخير، ولكن الصورة في مجملها ليست قاتمة كلها، فبصيص أمل يلوح في الأفق وشباب جديد يريد أن يتقدم، ألمح صورته في كل مكان أذهب إليه، وأسمع صوته عبر الهاتف، وأتابع نشاطاته عبر المنتديات والمؤتمرات، وأتصفح آراءه عبر «الفيس بوك» . لهذا الشباب فقط أتوجه بهذا المقال راجياً منه أن يستمر علي ما هو عليه، وألا يجعل لفكره قيوداً، أي قيود، وألا يجعل لحركته حدوداً، أي حدود، وألا يضع لنفسه أوصياء في صورة قادة أو زعماء، أي قادة وأي زعماء، وأن يثق في نفسه وقدراته وأن يضع عينيه علي النماذج الناجحة، كالنموذج التركي مثلاً، الذي قرر أن يفعل ففعل، وأن ينجح فنجح، قرر أن يترك العباءة القديمة البالية الضيقة التي كان يرتديها نجم الدين أربيكان، إلي سعة الدنيا والآخرة مع أردوغان وجول وداوود أوغلو وغيرهم من الشباب الواثق في نفسه وفي ربه وفي وطنه وفي مستقبله . إلي هؤلاء الشباب - وحدهم دون غيرهم - أتوجه إليهم أن يعودوا مرة أخري إلي نشاطهم الدعوي الإصلاحي، يبتغون من الله رحمته ورضوانه، وأن يتركوا اللوائح والمكاتب والقيادات يفسرون ما يفسرونه، ويدخلون ما يشاءون إلي دائرة رضاهم، ويخرجون منها ما يشاءون، ويعلنون خلاف ما يقولون، ويقولون ما لا يفعلون، فسوف يظلون بقية أعمارهم علي هذا الحال لن يتغيروا أبداً، ولن تفلح معهم جهودكم، كما لم تفلح معهم جهود السابقين أمثالكم، ألم يهاجموا العلاَّمة القرضاوي لمجرد أنه أرشدهم ونصحهم، ألم يهاجموا الدكتور العوا لمجرد أنه اقترح عليهم الاهتمام بالدعوة والفصل بينها وبين العمل السياسي؟!، أما الشيخ الغزالي عليه رحمه الله فقد كانوا - ومازالوا بعد وفاته - يهاجمونه ليلاً ونهاراً، وبمناسبة وبغير مناسبة، في حين أنه كان وحده أمَّة !! ليظل قدر هؤلاء الحكماء الثلاثة مع غيرهم من الغيورين علي هذا الدين هو مواجهة المحن والابتلاءات دائماً .. إن الأمل في حركة إسلامية راشدة مازال قائماً، ولا يملك الإجابة عن هذا السؤال إلا أنتم، أنتم أيها الشباب الفقراء البسطاء المتدينون، في القري والنجوع والحارات والأزقة، إنه التحدي أيها الشباب، فإما أن تكونوا .. أو لا تكونوا ..