منذ أكثر من 15 عاماًَ وأنا أنتظر أن يغني محمد فؤاد لابن البلد فهو أفضل من يفعل ذلك دون أن يتورط في هز الوسط تأكيداً لروح ابن البلد الشعبية، مرح ابن البلد لا يعني قلة القيمة، قد يعني زيادة مقبولة في الوزن أو درجة محببة من السمرة أو هوس بالفريق الذي يشجعه، لكن لن يعني أبداً أن يظهر علي الناس بفانلة بحمالات وقد رسم علي ذراعه تاتو أو بشعر مصبوغ، قد يعني قدراً من الطيبة التي تتماس مع السذاجة ولكن لن يعني أبداً الظهور مع راقصة ومنافستها في رعشة الأرداف، غني فؤاد لابن البلد أخيراً قائلاً: «أنا ابن بلد أنا بافهم في الأصول» لكنه غناها بعد أن بدأ البلد يبيع الأصول قطعة قطعة كراقصة استربتيز.. هذا بالنسبة للحكومة، أما بالنسبة للناس فقد تركوا الأصول في البنك كوديعة يستفيدون كثيراً من عدم الاقتراب منها أو استخدامها. ألبوم فؤاد ظهر وسط هوجة صحفية وتحقيقات كثيرة تسأل: هل تتحمل السوق ظهور خمسة ألبومات في وقت واحد؟! كانت المناقشة حامية خلال الأيام الماضية وفات المحققين أن الأذواق متباينة للغاية فجمهور «حماقي» غير جمهور «فؤاد» غير جمهور هاني شاكر، والدوري به أكثر من عشرة فرق.. لماذا لم تسألوا هل تتحمل الأجواء ظهور هذا الكم في موسم واحد؟، والبلد فيه عشرة أحزاب هل سألتم السؤال نفسه؟، كثرة المتنافسين عادة ما تخدم شخصاً بعينه فلابد من خمسة ألبومات لتأكيد أن عمرو دياب هو الوحيد الذي يقدم الجديد ولابد من عشرة فرق لتأكيد أن الأهلي فوق الجميع ولابد من عشرة أحزاب حتي يبدو الحزب الحاكم أن الشعب هو الذي اختاره، أنا شخصياً استمعت للألبومات الخمسة ورميتها واحداً تلو الآخر من شباك السيارة واحتفظت بواحد فقط، صرت لا أقبل من الموسيقي إلا ما يضيف إلي ثقافتي، لا أستمع إلي الموسيقي علي سبيل الاستهلاك.. أراها خبرة ما يقدمها لي شخص لديه ما يعرف أنه سيدهش الناس، ستفهم طريقتي إذا كنت قد تجاوزت الخامسة والثلاثين بعد هذه السن، تحتاج كل قليل إلي جرعة من الدهشة، ستحتاج إلي أن تكتشف شيئاً جديداً حتي لو كان فكهانياً أفضل من الذي اعتدت علي التعامل معه، أنا شخصياً أعيش سعادة خاصة هذه الأيام بعد أن اكتشفت مشروباً جديداً اسمه "الشاي المغربي"، تعرفت عليه في أحد أكشاك المشروبات علي طريق جدة - مكة، اشتريت منه عدة أكياس وصرت طوال غيابي عن المنزل أفكر في اللحظة التي أعود فيها إلي غرفتي لأشعل البخور مع بعض الموسيقي وأعد لنفسي كوباً مليئاً برغوة كثيفة بعد أن تعلمت طريقة صبه كبائعي العرقسوس، صرت أبحث عن كتب تتحدث عن الاختراعات وكيف كانت البداية لكل الموجودات من حولي والتي من فرط تعودي عليها كنت أعتقد أنها موجودة من بداية الكون، حتي النظريات التي قالوا لنا إنهم وصلوا إليها بالصدفة صرت أجد سعادة في معرفة أصلها، لم يكن أرشميدس نائماً في البانيو يلعب في شعر صدره عندما صاح "وجدتها وجدتها" الحكاية أن الملك طلب من صائغ شهير أن يصنع له تاجاً من الذهب الخالص وبعد أن تسلمه شك في أن الصائغ ربما يكون قد خلط الذهب ببعض الفضة فاستعان بأرشميدس المتعلم الوحيد في المملكة وسأله عن حل لهذا الشك الذي سيقتله، فذهب أرشميدس إلي حمام عام وكان نادراً ما يغتسل وقفز في الماء فلاحظ أن المنسوب ارتفع وفاض خارج المغطس.. شيء حدث من قبل مع شعوب من المستحمين لكن أرشميدس وجد فيه الحل، كرر التجربة فاكتشف علاقة بين حجم الماء المزاح ووزن الجسم المغمور، وهكذا أصبح حل الفزورة سهلاً يكفيه أن يغمر التاج في الماء ومقارنة حجم الماء المزاح ساعتها بحجم الماء المزاح من غمر كتلة من الذهب الخالص مساوية لوزن التاج، رزق الله أرشميدس قوة الملاحظة لأن الصائغ كان عمره قد انتهي.. فقد أعدمه الملك وأودع أرشميدس في مصحة عقلية. سأدعوك يوماً يا صديقي إلي براد شاي مغربي وسأقص عليك عشرات الحكايات من هذا النوع، ستفاجأ مثلي بأن ارتداء الأسود علي الميت تقليد يعني الحزن عليه منذ أن وعينا علي الدنيا لكن التقليد كان له بداية مختلفة حيث كان الأوائل يؤمنون بأن الشخص عندما يموت تهيم روحه بحثاً عن جسد آخر لتستقر فيه، فكانت القبيلة كلها ترتدي السواد حتي تعمي الروح الهائمة عنهم وتصرفها بعيداً، الأسود الذي قد تعتقد أنه وفاء للميت كان بدايته مجرد ندالة. الكلام عن الندالة يعيدنا إلي ابن البلد من جديد الذي قد يعاني من ديفوهات في أخلاقه لكنه لم يكن ندلاً في يوم من الأيام وهذا أحد أسباب فرحتي بأغنية فؤاد الجديدة.. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الألبوم الذي لم أحدفه من شباك السيارة واحتفظت به كان ألبوم فؤاد.