بعد أكثر من ربع قرن من الطب، وعقدين من الصحافة، ودراسة للطب الشرعي، وشهرة في العالم العربي، كواحد من أشهر كتاب القصة البوليسية، لم أقرأ في حياتي كلها تقريراً للطب الشرعي، يحكي واقعة لم يشهدها، مثلما حدث في قضية قتيل الإسكندرية، الذي لم يقنع جبابرة هذا العصر، بمدي خطورة ردود الأفعال بشأنه. التقرير وصف واقعة، لم يرها، وقررًَّ أن سبب الوفاة هو إسفكسيا الخنق، وإلي هنا كان ينبغي أن ينتهي دوره، ولكن أن يضيف أن هذا بسبب ابتلاع باكتة بانجو، أو مادة مخدرة، وأن يحدد أن هذا بسبب مقاومته لرجال الشرطة، فهو أمر أشبه بالتنجيم وليس بالطب الشرعي، فلو أنه هناك آثار عنف، فليصفها الطبيب الشرعي، الذي لم ير بنفسه (وحتي لو كان قد رأي بنفسه)، فما أدراه أن هذا بسبب تعنت وجبروت الشرطة، أم مقاومتها؟!... وهل عثر الطبيب الشرعي في حلق الجثة علي باكتة المادة المخدرة، أم أن ما وصله من الداخلية كان كافياً، ولا داعي لمراجعته أو تفنيده؟! تقرير هو نفسه أشبه بعمي البصر، الذي يحدث عندما تحين ساعة القدر، وهو ليس عمي بصر فحسب، ولكن عمي بصيرة أيضاً، فمهما كان تقرير الطب الشرعي، فهناك وسائل قانونية لتفنيده، وهناك أطباء شرعيون استشاريون، وطب شرعي عالمي، وعلم يفوق كل علم، وهناك شعب يغلي، والنظام بحكمته (بيدي حقن)، يرفض تهدئة الأمور، بل يصر علي مبدأ الجبروت؛ باعتبار أنه قوة يستحيل هزيمتها، فلديه نظم أمنية قمعية قوية، مثل تلك التي كان يتمتع بها شاه إيران، ونظام عسكري يحميه، مثل النظام الذي كان يحمي إمبراطور روسيا، وهو قادر علي تزييف الحقائق، مثلما كان يفعل ديكتاتور البوسنة.. وهذا بالطبع، مع عمي البصر والبصيرة، يشعره أن أمانه الوحيد في الجبروت.. والجبروت.. والمزيد من الجبروت.. لأن الجبابرة في نظر أنفسهم ليسوا من فئة البشر، فهم يرون أنفسهم آلهة، تأمر فتطاع، وتطلب فتجاب، وتقتل فينحني الناس أذلة. المشكلة الوحيدة التي لا يدركونها، ويعجزون عن تصورها، هي أنهم في النهاية يموتون، والآلهة لا تموت، والمشكلة الأخطر هي أنهم بعد أن يموتوا، مثل أي كائن، من النملة حتي الديناصور، سيقفون أمام منتقم جبار، لا يمكن معه تزييف الحسنات، أو إخفاء الذنوب الجسيمة، و.. لسه لنا بقية.