من قال إننا - شرقاً وغرباً - نحيا في عالم واحد؟! وكيف صدقنا ادعاءهم لنا بأن العالم قد صار قرية صغيرة؟! إننا بلاشك نحيا في عوالم متفرقة كثيرة.. علي الأقل ثلاثة عوالم.. سكنَّا نحن منها الأكثر ضعفاً وفقراً والأقل حيلة.. العالم الثالث.. حقيقةٌ شُغل بها كثير من كتاب عالمنا هذا وعمَّقها «أوزفالدو دراكون» الكاتب الأرجنتيني في ثلاثيته التي ترجمها الراحل الكبير قاسم محمد المخرج والكاتب المسرحي العراقي؛ وقدمتها «فرقة تلاتة المسرحية» علي مسرح روابط ضمن الموسم الثالث للمسرح المستقل باسم «حكايات من أزقة العالم الثالث». حكايتان منفصلتان علي مسرح واحد.. يشتبكان خلال بعض الجمل الحوارية القليلة؛ جاران عاطلان يعانيان الفقر يبحث كلٌ منهما عن عمل فلا يجد إلي أن تسنح فرصة عمل وحيدة: مطلوب كلب حراسة يظفر به أحدهما. أما الآخر فقد استطاع بصعوبة عن طريق الواسطة أن يحصل علي وظيفة في مصنع لمنتجات اللحوم. الرجل الذي يعمل كلباً يشترط عليه مدير المصنع أن ينسي بشريته ألا يتكلم إلا نباحاً ويمنحه في مقابل ذلك دولاراً واحداً في اليوم، بالإضافة إلي السكن المخصص لكلب الحراسة! في البداية يتذمر الرجل من السكن الصغير الذي يجبره علي الانحناء والاضطجاع كالكلب ويطالب مديرَه بأن يمنحه وظيفة عامل بدلاً من أحد العمال الذين أضربوا عن العمل وتركوه احتجاجاً علي المعاملة والأجر غير العادل فيرفض المدير بصلف ويصر علي أن يبقي الرجل في وظيفته.. كلبا! الرجل الآخر الموظف في مصنع اللحوم.. أبٌ لكثير من الأطفال.. فقدَ حُلمَه في أن يصبح فناناً كبيراً، أو حتي مهندساً ناجحًا.. يحاول أن يتجنب أحضان زوجته مصدره الوحيد للحب والدفء والأمان والمتعة أيضاً حتي لا تنجب له المزيد من الأفواه الجائعة! يسعي في عمله بكل ما يستطيع لكي يكبرفي وظيفته ويزيد أجره فيفقد إنسانيته شيئاً فشيئاً؛ تماماً كجاره الذي صار كلباً؛ ولكنه يفقد مع إنسانيته ضميره أيضاً.. يحاول أن يرضي رؤساءه بإيجاد مصادر للحوم الرخيصة حتي يسوقوها للعالم الثالث ويعلبوها في أغلفة ملونة ويطعمونا إياها ليحققوا أرباحاً طائلة؛ لا يهم ما المصدر حتي لو كان لحم الفئران! يعتاد الرجل «الكلب» علي الانحناء والخنوع والنباح.. ينسي كيف يحب زوجته ويقبِّلها فيروح يتمسح بها.. ويعضها! في الوقت الذي ينتشر فيه مرض الطاعون بسبب تناول الناس للحوم الفئران وببساطة شديدة يلقي أصحاب المصنع بالتهمة علي الموظف الذي أتي من العالم الثالث فهو الجاني.. القاتل.. الإرهابي! رؤية شديدة الدلالة.. عميقة الإيحاء قدمها المخرج والممثل الموهوب هاني المتناوي في عرض ممتع للغاية وبميزانية محدودة ربما أسهمت في تأكيد الحالة التي يطرحها العمل. استخدم المتناوي ممثليه في أداء أكثر من شخصية دون أن يشعر المتفرج بارتباك فكانوا يبدلون ملابسهم وينتقلون من شخصية لأخري بخفة شديدة؛ وبديكور بسيط للغاية ومؤثرات صوتية أداها الممثلون بأنفسهم قدمت لنا الفرقة عرضاً نابضاً لا يخلو من ضحكات ولا يتركك بلا إيلام! سلبية واحدة لا يمكن تجاهلها هي الأخطاء الكثيرة في نطق الحوار ففي نص كهذا مكتوب بالعربية الفصحي كان ينبغي أن تتم الاستعانة بخبير لغوي يضع الكلمات في تشكيلها الصحيح حتي لا تجرح أذن المتفرج فتفسد عليه الإحساس والمتعة بالعرض المتميز. أحمد التركي كان بارعاً في تجسيد الرجل الذي تحول كلباً وتميز بأدائه الجسدي الذي بدا واضحاً اجتهاده الشديد في التدرب عليه.. محمد عبده قدم شخصية الموظف بأداء جيد وحضور مميز لم يفسده إلا بعض لحظات بدا فيها كأنه يبالغ في السعي للتلقائية في الأداء وصلت به إلي حد الإلقاء الفاتر لكلمات الحوار، ريم حجاب ممثلة مسرح من طراز رفيع إحساساً وأداءً جسدياً وصوتيًا.. سامح عزت ومحمد الصعيدي تميزا بحضور واضح وخفة ظل دون استظراف.. نجلاء يونس لديها قدر من الموهبة يحتاج إلي كثير من التدريب. في عالمنا الثالث ربما يستسلم بعضنا وينحني كالكلب وربما ينسي البعض الآخر آدميته فيقتل جيرانه ليعيش هو.. إذا لم يكن الأمر قد وصل بعد إلي تلك البشاعة فعلينا أن ننتبه قبل أن نصبح جميعًا ككلاب الحراسة في مصانع العالم الأول.. نسكن علي بواباتهم ونطعم لحوم الفئران!