يعيش الصحفي والكاتب طوال عمره يلهث خلف الحقيقة وكلما شعر انه كاد ان يقترب منها ويمسك بها يكتشف ان الحقيقة مازالت بعيدة.. وان امتلك كما يقول الفيلسوف والكاتب، جبران خليل جبران: امتلك «حقاً» ولم يمتلك الحقيقة! ومنذ نعومة أظافري كنت احلم ان اكون صحفياً ومناضلاً في البحث عن الحقيقة من اجل تغيير العالم من حولي.. في طفولتي لم اكن احلم مثل سائر الاطفال باللعب بل كنت اسبح في عوالم اخري اسطورية من اجل تغيير الواقع الفقير الذي اعيش فيه وكنت اري كيف يعمل ابي ليل نهار لكي نحيا حياة افضل من التي عاشها وكانت والدتي تشاركه الكفاح (رحمهما الله) ولذلك انخرطت في العمل مع الدراسة مبكراً.. وفي مراهقتي وبدايات شبابي لم أحلم مثل الآخرين بفتاة أحلامي لانني تعرفت مبكراً علي الثقافة اليسارية وقرأت رواية الأم للأديب الروسي العظيم مكسيم جوركي، واحببت بطلها بافل، وبحثت عن اليسار قبل ان يبحث عني وحينما وجدته! ادركت ان حياتي تغيرت.. ومن قلب اليسار وحزب التجمع انفتح قلبي علي زوجتي وتقاسمنا الحلم والحب والثورة ولكنني ادركت ان الحلم العام للتغيير المجتمعي والنجاح في العمل العام ليس شرطاً لكي اكون زوجاً ناجحاً و رحلت زوجتي الحبيبة عن عالمنا قبل ان ادرك هذه الحقيقة وقررت ان اعتذر لروحها عن عدم نجاحي في دور الزوج المثالي في ان اعيش هذا الحب مع ابني ولعلي لم اترك لولدي سوي الشفافية والقدرة علي الحب لأب زاهد ولا يملك من ثروة إلا ضميره وقلمه.. وعشت أحاول ان اسدد للراحلة ما عجزت عنه في حياتي.. وسافرت شرقاً وغربا.. قاتلت في لبنان وساندت المقاومة الفلسطينية ودرست اعلي الدراسات في الاتحاد السوفيتي السابق و خضت ما امكن من معارك التغيير من اجل العالم وعدت الي مصر وكنت التقي ابني وبدلاً من ان أشاركه أحلام طفولته كنت اقص عليه (بطولاتي) واذهب معه الي الاماكن التي يريدها واحقق له جميع امنياته دون ان ادري ان هناك امنية غالية لهذا الطفل الذي يترعرع وبداخله امنية مكتومة ان يمتلكني كأب.. ان يحتضني.. ان يتدفأ بانفاسي.. ان يشعر بانني احاسبه علي اخطائه وان اجازيه علي نجاحاته.. ان يشعر بخوفي عليه ولنصرته حينما يقع عليه ظلم.. كل ذلك لم يحدث لانني كنت أعامله كصديق و لم اكن اعرف ان الابوة ليست فقط بالجسد بل بالروح وهكذا صار ابن يعلمني خبرة الابوة من خلال نجاحاته التي كانت تفوق سعادتي بنجاحه.. ومؤخراً وحينما اقتربت من حبيبة ابني وخطيبته حدث تغيير كبير حينما شعرت بان البحث عن الحقيقة في حياتي الخاصة لازال امامي عبر مساندة تلك الاسرة الصغيرة في انجاز ما تعثرت انا في انجازه... وجزء من ذلك الولوج الي هذا الامل الجديد هو الاعتراف و الاعتذار لزوجتي ولابني علي اي ألم تسببت لهما فيه والامتنان لخطيبته الابنة الجميلة بالحلم الجديد الذي بدأ يتفتح من بين عينيها والاسرة الجديدة القادمة من اعماق جرحي الشخصي وأحلامها... يذكرني ذلك بحوار تم بين السيد المسيح وأحد احبار اليهود يدعي نيقوديموس حين قال السيد المسيح له: «الحق الحق اقول لك ما من احد يمكنه ان يري ملكوت الله الا من ولد من عل» تساءل نيقوديموس: « كيف يمكن للانسان ان يولد وهو شيخ كبير؟ أيستطيع ان يعود الي بطن امه ويولد؟ فرد السيد المسيح: «ما من احد يمكنه ان يدخل ملكوت الله الا اذا ولد من الماء والروح؟ مولود الجسد يكون جسداً ومولود الروح يكون روحاً» وها انا اولد من جديد عبر تطهري بماء الاعتذار وولادتي بالروح عبر معمودية الانتماء الي اسرة ابني الجديدة واتعلم الابوة من بنوة ابني وينفتح الأمل في التغيير من ابتسامة خطيبته العذبة، وخوض النضال من اجل تغيير نفسي بالتوازي مع حلم تغيير الوطن.. ولازلت اسبح عكس التيار بحثاً عن الحقيقة، واتذكر اغنية مسلسل «حضرة المتهم ابي»: و حقك علي عيني يا ابني يا نور عيني!!