النجاح الكبير في عملية الاستفتاء على الدستور يعني أول ما يعني دخول مصر الى الممر الآمن للخروج المريح من عنق الزجاجة، لن يكون بعدها في وسع أحد أن يتجاوز خارطة الطريق، ولا عرقلة التقدم على أساسها، حيث يبدو واضحا للعيان أن الاستفتاء لن يكون فقط على المواد المعدلة في الدستور المعطل ، ولكنه يأتي كاستفتاء على اسقاط حكم الاخوان، وعلى استعادة الدولة المصرية، وعلى اعادة النظام الى ربوع الشارع المصري وعودة الامن بكامل طاقته، وعودة الانتاج بكل طاقاته. هو يوم المصريين البسطاء بامتياز ، وهو اختبار جديد لوعي الشعب المصري يثبت فيه مجدداً جدارته لحياة كريمة، ويلقن فيه الجميع درسا جديدا فى الوعى والذكاء الفطرى، وهو اعلان شعبي كاسح عن سحب البساط من تحت أقدام المتاجرين باسم الدين، هو يوم الاستفتاء على النسخة الأحدث من الدستور، تبدأ معه مصر تاريخاً جديداً يؤسس فيه الشعب لشرعية مؤكدة، ويضفي بخروجه الكبير مصداقية لا تشوبها شائبة على 30 يونيو وما بعدها، هو باختصار نقطة فاصلة في حياة المصريين، وتاريخ فارق فى مسار خارطة المستقبل وفي مسيرة الثورة فى المرحلة المقبلة.
مرة أخرى يجد المصريون أنفسهم مدعوين للخروج مجدداً وللمرة الثالثة للاستفتاء على الدستور منذ سقوط الرئيس الأسبق حسنى مبارك منذ 3 سنوات ، في كل مرة كانت عملية الاستفتاء تتم تحت عنوان رئيسي ، مرة من أجل الاستقرار ، ومرة من أجل الاستمرار ، وكان عنوان هذه المرة هو المستقبل ، راهنت قوى الاسلام السياسي وفي القلب منها جماعة الاخوان في المرة الأولى على شعار الاستقرار لتكسب معركة التعديلات الدستورية التي شاركت في وضعها وحدها من دون سائر القوى السياسية ، وراهنت نفس القوى مرة ثانية على شعار الاستمرار لتضمن التصويت لمصلحة دستور 2012 التي انفردت وحدها بإقراره بعد انسحاب جميع القوى الأخرى ، وهذه المرة كان الرهان مختلفا من قبل القوى المدنية بمشاركة فاعلة من الدعوة السلفية وذراعها السياسي المتمثل في حزب النور وصار رهانهم جميعا على المستقبل وعينهم على انجاح العملية السياسية، وإتمام الخارطة التي توافقت عليها القوى الوطنية هو الذي يدفعهم الى تكثيف الجهود وتجميعها من أجل اقرار الدستور الجديد.
يتوجه المصريون الى لجان الاستفتاء وهم يعلمون يقينا ان اقرار الدستور هو الحدث الأهم ، والاستحقاق الأول والأخطر على خارطة الطريق ، ذلك أن إقرار الدستور يعنى أولا التقدم على طريق المستقبل خطوة واسعة ومهمة الى الأمام ، ويعني ثانيا توقيعاً شعبياً عبر الصندوق على الإجراءات التى تمت فى مصر منذ 30 يونيو، خاصة عزل الرئيس السابق محمد مرسى ومن بعد إخراج جماعة الإخوان من المشهد السياسى، ومن ثم إنتاج شرعية جديدة تكرس الشرعية الشعبية التى تجلت يوم 30 يونيو ثم يوم 26 يوليو الماضيين بنزول عشرات الملايين إلى الشارع، ويعني ثالثاً رداً بليغاً على كل الأطراف الرافضة في الداخل والخارج، ويعطي الكلمة الفصل في نزاع الشرعيات، بين شرعية سقطت شعبيا بالخروج الجماهيري مرتين، مرة في الشوارع والميادين، وأخرى أمام لجان الاستفتاء وفي الصناديق، وبين شرعية أخرى بازغة تتطلع الى المضي قدماً على خارطة الطريق الى المستقبل .
وسط مناخ غير مواتٍ، وتحركات على الأرض تهدف الى التعطيل بأي ثمن ، يبقي الرهان على الخروج الكبير للجماهير في الاستفتاء على الدستور الجديد هو العنوان الرئيسي لحركة القوى المتحالفة، وتكثفت حملات الاسبوع الأخير على حث الجماهير على النزول والتصويت على الدستور الجديد بينما تصاعدت حملات العنف وتنوعت وزادت شراستها مع كل يوم يقترب فيه الموعد مع الاستفتاء.
كثير من الذين يتوجهون الى صناديق الاقتراع همهم الأول هو الخروج من عنق الزجاجة التي حشرت فيها البلاد طوال السنتين الماضيتين، وبعيدا عن مضامين المواد الدستورية، فان الموقف من الدستور القادم هو موقف سياسى من مستقبل مصر، الفرق هذه المرة كبير بين المصوتين والمقاطعين، وسواء كان التصويت بنعم أو كان التصويت بلا يبقى المشاركون في خانة الموافقة على خارطة المستقبل، أما المقاطعون فلهم لون واحد هذه المرة هو لون الرفض ليس للدستور وحده ولكن لكل ما جرى بعد الثلاثين من يونيو الماضي، يجتمعون على عرقلة المسيرة ووقف المسار، ولا يحدوهم أفق سياسي، ولا يطرحون وسائل سياسية في التعامل مع مثل هذه الاستحقاقات التي هي بطبيعتها سياسية، الموافقون يرونها خطوة كبيرة ورئيسية وتأسيسية لشرعية جديدة في الوقت الذي تسقط فيه الشرعية المدعاة من الرافضين الذين يرونها بنفس المنظار ويحاولون جهدهم كله لعرقلتها أو تعويقها أو اثارة الشكوك حولها.
مشكلة الرافضين أن نسخة الدستور الجديد لم تستبعد أي انجاز حقيقي للدستور الذي تبنوه هم أنفسهم من قبل، ثم أضاف اليها انجازات أخرى وأصلح عواراً كان في نسختهم الدستورية وخرج كل ذلك بتوافق وطني حقيقي جمع تيارات المجتمع الرئيسية من اسلاميين وسلفيين وليبراليين ويساريين وقوميين، ولا يمكن لأي فصيل سياسي معتبر في البلاد أن يجحد حقيقة التوافق على الدستور بنسخته الجديدة.
الإقبال بكثافة على التصويت يتناسب مع الحراك السياسي الذي تعيشه مصر منذ ثورة الثلاثين من يونيو، ويجعل السؤال الأهم الآن هو ماذا بعد إقرار الدستور؟
أكبر مشكلة ستواجه الرئيس الجديد وحكومته تتمثل في ضرورة توفير حد أدنى من الحياة الكريمة لملايين المصريين الذين عانوا طويلاً، والأمل يحدوهم اليوم في حياة أكثر أمنا وأرسخ عدلاً ، وما اقبالهم الكبير على الاستفتاء إلا اعلان شعبي عن ذلك الأمل الذي طال انتظار تحقيقه.