إن أحداً لا ينازع أن القضاء المصري هو الجبل الشامخ والطود الراسخ.. الحصن الحصين الباقي.. الواقي سياجاً للحريات وصون حقوق المواطن من بطش السلطة أو سطوة رأس المال وتوحشه وقلب التركيب الاجتماعي رأساً علي عقب.. وبلوغاً لتأمين رسالته فإن الدساتير جميعها التي تحترم كرامة الإنسان تعارفت.. أجمعت علي الحرص علي كفالة استقلال القضاء وحصانة رجاله التزاماً واحتراماً، لهذا نصت المادة 166 «القضاء مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة» والمادة 168 «القضاة غير قابلين للعزل وينظم القانون مساءلتهم تأديبيا». وإذا كان النظام الدستوري المصري عماده وركازه وسناده هو الفصل بين السلطات الثلاث «التشريعية والتنفيذية والقضائية»، إلا أن طبيعة الأنظمة البرلمانية - لو صح اعتبار النظام المصري أنه برلماني الهوية - تجعل من السلطة التشريعية رقيباً وحسيباً علي السلطة التنفيذية وتشل يدها عن الاقتراب من السلطة القضائية، بل إن هذه الأخيرة هي التي تحاسب وتراقب وتحكم وتحاكم من يتردي من أعضاء السلطة التشريعية في مخالفة للقانون، بل إن الشرعية لا تكتمل لعضوية البرلمان إذا ما طعن بالعبث في العملية الانتخابية، إلا بعد أن تقول محكمة النقض كلمتها التي لا ترد عن سلامة أو فساد العضوية. بيد أنه ما يستلفت النظر ويشد البصر أنه في الخمس السنوات الأخيرة برزت علي السطح بعض المؤشرات تشي بالرغبة في اختزال أو استبعاد الرقابة القضائية أو قص ريشها مثل ما جري لدورها في الانتخابات البرلمانية وألاتجري تحت رقابة القضاء علي الصناديق الانتخابية. ولعل أبرز مثل ومثال يتجلي فيما نصت المادة 166 من الدستور «ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة»، فإنه في شأن تحديد الصلاحية للجلوس علي منصة القضاء ومن الأحق بالجلوس عليها وهي جوهر شئون العدالة، إلا أنه استجابة لتيار واسترضاء لشعارات ترفعها جهة لا يرد لها قول و ظهرت بدعه حق المرأة أن تركب كرسي القضاء، وأن القول بغير ذلك هو تفرقة بغير فارق وتمييز لجنس علي آخر دون مميز. وهي لب وقلب المشكلة القائمة في واحدة من قمم جهات القضاء هي حبة في عنقود الفاكهة المرة واستناداً إلي حجج هابطة.. حابطة.. ساقطة، بل عدوان علي محارم الدستور والقانون وسبيله هو التحايل علي النصوص والعسف والتعسف في تفسيرها وتأويلها.. بل قل إنها من المضحكات المبكيات.. ذلك لأن السلطة التنفيذية التي تمثلت في رئيس الحكومة الرجوع إلي المحكمة الدستورية العليا في شأن الخلف الذي ثار من الجمعية العمومية للمجلس بأغلبية 89% والمجلس الخاص بأغلبية أربعة أصوات من مجموعها السبعة وحالة أن تلك الغلبة وقفت عند حد الإرجاء وليس الرفض والإباء. ويا للهول.. ويا لخيبة الأمل.. ذلك أن المحكمة الدستورية العليا قمة القضاء ودرة وتاج رأس القضاء وقبلة العدالة وبابها مفتوح علي مصراعيه.. رسالتها.. وسبب وجودها أو كما يعبر عنه في القضاء والفقة الفرنسي RAISON DETRE يدور وجوداً وعدما مع النص الدستوري في المادة 175 «تتولي المحكمة الدستورية العليا دون غيرها الرقابة القضائية علي دستورية القوانين واللوائح، وتتولي تفسير النصوص التشريعية، وذلك كله علي الوجه المبين في القانون»، وأنه ولئن كان وجه الرأي فيما ذهبت إليه المحكمة الدستورية العليا، فإنه وبرغم أن اختصاصها مقصور علي تفسير النصوص التشريعية حسبما يتضح من القاعدة الأصولية بأنه لا يجوز تفسير نصوص القانون إذا كانت تعبر عن إرادة المشرع ولا يصح لأي جهة قضائية مهما علا قدرها وسما شأنها تحميل النص ما لا يحتمل أو مخالفة الغاية من التشريع.. ولعله من الجلي الواضح أن قراري مجلس الدولة سالفي البيان في شأن إرجاء نظر تعيين المرأة لا يعتبر من قبيل التشريع الذي يصح تفسيره، بل هو شأن داخلي بحت وقرار ولائي.. تنظيمي الطبيعة.. إداري الهوية مما يتأبي عن التفسير ومما ينحسر عنه اختصاص المحكمة العليا. تري هل وقف الأمر عند هذا الحد إنه من المضحكات المبكيات أنه طرح هذا الموضوع في مجلس الشعب فإن اجتهادات المجتهدين وتفسيرات المفسرين ومستجدات المجددين أن ما ورد في عدد من النصوص الخاصة بقانون السلطة القضائية عن لفظ «رجال القضاء» فإنه يستبدل بلفظ «أعضاء القضاء» وبذلك يسقط لفظ «رجال» وتنفتح أبواب الجنة للمرأة وجميع النساء. ويا ليت الذين أجهدوا أنفسهم في البحث والدراسة اتجهت أبصارهم إلي الفساد الذي عم البلاد، أو كما قال الدكتور زكريا عزمي «بلغ حد الركب» أو إلي ما يواجهه المجتمع من آفات الغلاء وتدني دخول الفقراء الذين تصاعدت نسبتهم إلي 40% من الشعب المصري دون حد الفقر أو إلي الديون التي تصاعدت إلي 941 مليار جنيها أو إلي الإضرابات والتظاهرات والاعتصامات والإضراب عن الطعام والمبيت علي أرصفة مجلس الوزراء ومجلس الشعب.. أو إلي تدني موقف الريادة والقيادة لمصر وفقدانها ما كانت تحظي به من تقدير وتوقير علي الصعيد العربي والعالمي علي السواء أو حتي إلي الأزمات الداخلية والشوارع التي باتت الزبالة فيها تشكل تلالا.. أو إلي اليأس والإحباط لملايين المؤهلين الذين فقدوا الأمل في الوصول أو الحصول علي عمل وفضلوا الانتحار في البحر الأبيض المتوسط بالسفن، بل قل القوارب التي كانوا يستقلونها لتهبط بهم علي أي شط أو ساحل أوروبي. يا أيها السادة تعالوا بنا نفتش.. نبحث.. ننقب عن حلول للأزمات التي تعصف بمصر.. إنه بركان يزمجر.. يصرخ وينذر ويحذر وإذا ما انفجر فالله وحده يعلم المصير والمستقر، وهو علي أي لا يبشر بخير، بل العكس تماماً فإن ما يحيط بنا من جميع المواضع والمواقع أنه تتربص الكارثة بمصر وهي قاب قوسين أو أدني.. وأنه لمن المحزن أن الشعب يتساءل: هل استقر القرار علي الضبعة مكانا للمشروعات النووية؟.. بل إن الشعب يتساءل هل توجد في مصر حكومة وأين هي؟.. وأين سطوة الدولة.. هيبتها.. كرامتها.. عزتها؟.. ولسنا نجد أوفي علي الغاية مما قاله نابليون في منفاه بسانت هيلينا أنه لم يجد في العالم كله بلداً يحتاج إلي دولة قوية علي ما هو الحال بامتياز مثل مصر.