سكون فى مرسمى.. هدوء وشجن لا يتخلّله إلّا صوت محمد عبد الوهاب يشدو.. «ماليش يا مصر حبيب غيرك.. من الصبا وجرى ف دمى.. أحب نيلك وسماكى.. إنتى أبويا إنتى امى.. ونيلك الحلو الصافى.. أفديه بروحى وعينيا». احتارت يداى وأنا أتحسس لوحات كثيرة بيضاء متراصة أمام عينى لأتخيّر منها مقاسًا مناسبًا أبدأ به فى رسم لوحة جديدة أفضى إليها بشحناتى المريرة التى تراكمت بداخلى بفعل ما وصل إليه حال بلدى المبتلى بالقهر والوهن الذى بدأ ينخر فى عظامها المصابة بخسّة الغدر والتآمر.
حملت بيد مُثقَلة بالتَّة الرسم.. وبدأت أجول بعينَىَّ بين أنابيب الألوان باحثًا عن لون يناسب بلدى، وحمل بلدى الثقيل.. وليل بلدى المملّ الطويل، الملبَّد بغيوم وخفافيش وريح صرصر عاتية... هربَت مرتعبة من صفيرها نجماتٌ رِقَاق لَمْلَمْنَ ضياءهن وتوارين عن الأنظار غير عابئات بسهر الملهمين من الفنانين والشعراء.. ولم يرجعهن ورع العابدين فى خلوة السماء.. ولم تأخذهن رأفة بالسائرين هديًا بنورهن فى صحراء قاحلة موحشة!
وكلما راحت عيناى للّون الأخضر.. وجدتُ يدَىّ وقد تلمّسَتا اللون الأسود بلا قصد ولا إرادة! وكلما داعب بصرى اللون الأحمر أو الأصفر أو الأزرق.. وجدتُ أصابعى تلتقط اللون الأسود بلا تردُّد.. وصوت يهمس شاردًا بداخلى: الأسود.. الأسود.. نعم.. بكل تأكيد هو الأسود!
رسمتُ مصر امرأة فارعة الطول، ممشوقة القوام.. لها عينان ساحرتان تُطِلّ منهما نظرة حزينة منكسرة تتجاوز حدود اللوحة.. والدنيا، كأنها تسافر إلى لا نهاية فى شرود مُطلَق!
رسمتُ شعرها متهدلًا مبعثَرًا على كتفيها وصدرها.. فيضيع لونه الأسود مع لون ثوبها الفاحم شديد السواد.. فلا تدرك لخصلاتها نهايات وقد ابتلعتها ثنايا الثوب الممزَّق كاشفًا عن مواضع متفرقة فى جسدها الذى بدا وقد طالته وتمكّنَت منه أنياب ومخالب مفترسة غشيمة... نهشت وما زالت تنهش بِغِلٍّ وانتقام... هذا الجسد الذى طالما سترَته أزمان الفرسان وحمته من غدر اللئام.. فولّت اليوم وهاجرت بالعزّة والنبل والأمان.. وبات الشعب وقد داهمَته نوبة نعاس بفعل اليأس والقرف والغثيان.. فألقى بنفسه على قارعة الطريق ممدِّدًا جسده ليسدَّ به مداخل ومخارج الدنيا والرزق وأقوات وعقول البشر.. كأنه يعلن حالة من الانتحار.. أو كأنه يلعب دور شمشون الجبار الذى قرر أن يهد المعبد على رأسه ورأس أعدائه...!
ما زلت ألوِّن بلا ألوان.. الوجه أسود، الشعر أسود، الثوب أسود... والأفق البعيد هو المخرج الوحيد من هذا السواد...! رجعتُ بخُطاىَ إلى الخلف بضع خطوات.. وأطَلْتُ النظر إلى ما رسمتُ.. اللوحة تحتاج إلى شمس... أو حتى إلى شعاع شمس.. مجرَّد شعاع يشقّ هذا الغيم ويشرخ هذا البناء الأصمَّ شديد الأفول... أنا لم أتعوّد قَطُّ أن أرسم مصر بهذا السواد والحزن والاستسلام! ربى، ماذا جرى لى؟ وماذا ألَمّ ببلدى مصر؟ وطنى الصابر على كل ولاد كلب اخترقوا تاريخه ولو للحظات عبر التاريخ! لماذا إذن طالت محنته فى هذه المرّة... ومع هذا الكابوس اللئيم... متى سينقشع؟!
اللوحة تحتاج إلى فارس جَسُور يهبط عليها بجواده الأبيض ليظل يركض هنا وهناك فيصبغ اللوحة بكل ألوان الطيف.. ويُلَمْلِم ثقوب الثوب ويزيح سواده.. ويغزل الشعر المتهدل فيشكّله ضفائر تستعيد تاج الفلاحة المصرية الأم.. وثقة الفتاة طالبة العلم والحرية والثورة... ويستنفر الفارس من نام وسدّ الطريق وخارت قواه فلم يعد يفرق معه قوت يومه ولا تأنق مرقده!
وفعلت.. نعم فعلتها.. رسمت الفارس والجواد الأبيض والشمس البرتقالية الدافئة تطل فى الأفق البعيد وترسل خيوطها لتنعكس على وجه الفتاة الساحرة بعد أن بدأت تتوارى عن الأنظار لتبدّل بثوبها الأسود ثوبًا آخَر أخضر بلون زرع الغيطان والحقول الفيّاضة بثمارها وخيراتها.. رسمتُ شعبنا يستعيد نبله وشهامته ويستفيق خصاله الوسيمة متأنقة الحجّة والمنطق... ويزهو بتحلِّيه بالعفة والتحضر والطيبة الرطبة السمحة.. رسمت الناس كلها عيون محدّقة نحو الشمس فى ثقة وتفاؤل وشعور بالبطولة واكتمال الوعى.. فلم يعُد التضليل يستسهل وداعتهم ليصل إليهم عبر طريق الذل والاستكانة المعبأة فى كيس سُكَّر وزجاجة زيت فيكون ثمنًا شديد الرخص والمهانة لوعيهم وعفّة نفوسهم.
ابتسمت وأنا جالس أرقب وأطالع لوحتى الجديدة التى ستخرج بها مصر إلى معرض الدنيا فور أن يهاجرها جرذان العصر المنكوب بجرذانه!