تدعي الحكومة وحزبها أنهما لا يتستران علي فساد ويذكران وقائع فساد وصلت إلي ساحة القضاء كدليل علي صدق هذا الادعاء. ولن أناقش هذا الادعاء نظرياً، لكني سأقدم أمثلة صارخة تؤكد أن قضايا الفساد التي وصلت إلي مساحات القضاء كان وراءها إلحاح من المعارضة علي كشف هذه القضايا من ناحية، وبلوغ مافيا الفساد في تلك الحالات حدا من الفجور والتحدي والاستفزاز لم تستطع معه الحكومة وحزبها أن يواصلا حماية هذه الحالات الفاجرة من الفساد، ورغم ذلك فإنهما - أي الحكومة وحزبها - لا يتوقفان عن محاولة إنقاذ مرتكبي هذا الفساد الفاجر بأساليب تعتمد علي حيل قانونية، خاصة إذا كان مرتكبو هذا الفساد من كبار رجال هذا النظام، أو كانت لديهم أسرار عن فساد أكبر يهددون بإفشائه إذا لم تنقذهم الحكومة وحزبها. أحدث فضائح الفساد فجرته المحاكم الأمريكية التي كشفت عن رشاوي بالملايين دفعتها شركة مرسيدس لمسئولين مصريين كبار لتسهيل بعض عملياتها في مصر. الشركة الألمانية اعترفت بالواقعة رسميا، والمحاكم الأمريكية حددت «الجهة» التي حصلت علي الرشاوي في مصر، ورغم ذلك لم نسمع أو نقرأ كلمة من مسئول مصري تطمئن الشعب المصري إلي أن إجراءات قانونية قد اتخذت تجاه هذه «الجهة» التي نشر اسمها في حكم المحكمة الأمريكية. وأخيرًا نشرت الصحف تصريحات منسوبة لمصدر مسئول رفض ذكر اسمه يعد فيها ببحث الموضوع بواسطة الجهات الرقابية!! وأردف المصدر المجهول - حسب ما نشر - أن هذا البحث قد يستغرق شهرًا أو أكثر؟! الواقعة محددة في حكم المحكمة الأمريكية واعتراف المسئولين بالشركة الألمانية والتفاصيل ذكرت تاريخ تقديم الرشاوي وقيمتها والبنوك التي أودعت بها قيمة الرشاوي واسم الشركة التي قامت بالوساطة بين الشركة الألمانية والمرتشي. وفي مثل هذه الحالة فإن معرفة اسم المرتشي لا تتطلب أكثر من دقائق ولا أقول ساعة، فمراجعة أوراق الشركة وسجلاتها في التاريخ الذي حدده الحكم القضائي لا يحتاج لأكثر من بضع دقائق لاكتشاف اسم «المرتشي»؟! وهذا التهرب الحكومي من إعلان اسم المرتشي واتخاذ الإجراءات القانونية لمحاكمته يفتح أوسع الأبواب لتكهنات وشائعات تعلق الاتهامات علي أسماء مسئولين كبار يشغلون مواقع قيادية حساسة بالحكومة وحزبها، بهذا الموقف الذي يتحايل لإخفاء اسم المرتشي بإجراءات قانونية لا يحمي المرتشي الحقيقي، لكنه يضع في دائرة الاتهام الشعبي عشرات من أسماء القيادات العليا بالحكومة والحزب. في قضايا وزير الإسكان السابق المهندس محمد إبراهيم سليمان مرت الشهور والرجل مطلق السراح، يرتب أوراقاً ويجتمع بمن شملهم الاتهام من رجال الأعمال ومن موظفين سابقين، ويقدم الرجل «أدلة قانونية» لا تنطلي علي عقل طفل مثل تقديم أوراق رسمية تثبت أن ابنه القاصر اشتري قطع الأرض المتميزة وبني عليها قصرًا والحال نفسها حدث بالنسبة لابنته!َ! فأي عقل يصدق أن «صبيا» قاصراً يملك مئات الآلاف من الجنيهات بل والملايين ليشتري الأراضي المتميزة ويبني القصور؟! ومتي كانت الذمة المالية للقاصر منفصلة عن ذمة والده، خاصة إذا لم يثبت أن أموال القاصر ورثها عن جهة لا علاقة لوالده بها؟! هل يتصور عاقل أن أي مواطن مصري كان يمكن أن يترك حرا طليقاً لو وجهت له تهمة واحدة من عشرات التهم الموجهة للوزير السابق؟! أم أن المواطن الذي يتهم في قضية فساد يتم حبسه احتياطياً علي ذمة التحقيق حتي لا يتمكن من ترتيب أوراق وشهود يمكنوه من الإفلات من العقوبة؟! يقف الدكتور زكريا عزمي تحت قبة مجلس الشعب ليعلن بكل وضوح أن عمليات السرقة الكبيرة قد تمت خلال عمليات الخصخصة ومن قبل أعلن أن الفساد في المحليات وصل إلي الركب!! ولم نر أي تحرك من الحكومة أو حزبها لتقديم مافيا الفساد التي أشار إليها صراحة الدكتور عزمي إلي المحاكمة ويفسر كثيرون هذا التناقض بين التصريحات والأفعال بأن هذه التصريحات ليست أكثر من عملية امتصاص غضب الجماهير ولاستخدامها عند الدفاع عن الحكومة وحزبها باعتبارها «دليلاً» علي أن الحكومة وحزبها هما اللذان يكشفان الفساد؟! والسؤال الطبيعي في مثل هذه الحالة هو ألا تملك الحكومة أجهزة رقابية تعرف «دبة النملة»؟! فكيف تعجز هذه الأجهزة معرفة أسماء مافيا الفساد التي حدد الدكتور عزمي مواقعها بكل وضوح؟! ادعاء الحكومة وحزبها أنهما لا يحميان فساداً، ادعاء يكذبه الواقع.. فمجرد حديث مسئول حكومي وحزبي كبير عن وجود فساد لا يعني شيئاً، إلا إذا اقترنت هذه التصريحات بتقديم مرتكبي هذا الفساد لمحاكمات عاجلة وعادلة وتوقيع الجزاء الرادع بالمنحرفين.. الجماهير تريد أن تري أفعالاً ومحاكمات تردع المنحرفين لا مجرد تصريحات رنانة تدين فساداً يعرفه الجميع.